خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران 3-5

نشر في 07-08-2008
آخر تحديث 07-08-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

تتأرجح احتمالات المواجهة الأميركية-الإيرانية صعوداً وهبوطاً، وقلما يمضي أسبوع من دون إشارات تصعيد أو تهدئة بين الطرفين، فزادت حيرة المنطقة والعالم حول الطريق الذي ستسلكه هذه العلاقات الحاسمة في توازنات المنطقة والعالم. تركز هذه السلسلة من المقالات على خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران عبر محاولة الإجابة عن أسئلة جوهرية في معضلة العلاقات الأميركية-الإيرانية.

كانت إيران ومازالت منذ قرنين على الأقل من أهم محددات الصراع الدولي بين روسيا وإنكلترا، ثم بعد ذلك بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية. وساهم انضواء إيران تحت المظلة الأميركية أثناء الحرب الباردة في حسم نتيجة هذه الحرب- طبعاً ضمن عوامل أخرى- لمصلحة واشنطن بسبب الحصار الذي تفرضه الجغرافيا الإيرانية على روسيا. ومنذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 تغيرت معادلة التوازن الروسي-الإيراني فلم تعد إيران معادية لروسيا كما كانت في السابق، ولكنها لم تنضو تحت جناحها في الوقت نفسه، إذ خرجت إيران من الصف الأميركي ولم تدخل في مثيله الروسي. وبعد انتهاء الحرب الباردة بنتيجتها المعروفة وانتهاء الحرب العراقية-الإيرانية بنتيجتها المعروفة كذلك، فقد سعت كل من موسكو وطهران إلى صياغة تحالف استراتيجي بين البلدين في قضايا السياسة الخارجية سواء في آسيا الوسطى والقوقاز، أو حتى في أفغانستان والعراق ودعم إيران بالتكنولوجيا النووية والعسكرية اللازمة لتمكينها من زيادة قدراتها العسكرية والتكنولوجية.

من ناحيتها سعت روسيا منذ بداية حكم الرئيس السابق فلاديمير بوتين عام 2000 حتى الآن في عصر خلفه ميدفيديف، إلى تثبيت حلفاء استراتيجيين في مواقع مختلفة كمناطق عازلة، أو «جدران صد» ضد النفوذ الأميركي في العالم. ووفق هذا التصور تحتل إيران مكانتها لدى موسكو باعتبارها الشريك الوحيد لروسيا في منطقة الشرق الأوسط والخليج وآسيا الوسطى. وتجد التصورات الجيوبوليتيكية الروسية سياقها الأساس في الصراع الذي تعتبره حتمياً بين «التيلوروكراتيا»، أي القوى البرية، و«التالاسوكراتيا»، أي القوى البحرية. جسدت روسيا القيصرية القوى البرية، في حين قادت بريطانيا العظمى القوى البحرية، طوال القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كرست الولايات المتحدة الأميركية نفسها قائدة للمعسكر الغربي بالمعنى السياسي، ولقواه البحرية بالمعنى الجيوبوليتيكي، أما روسيا قائدة القوى البرية فقد تغطت بعباءة الاتحاد السوفييتي لمواجهة القوى البحرية وزعيمتها الولايات المتحدة الأميركية، ليخوض قطبا الجيوبوليتيك الكوني صراع القرن العشرين الذي ربحته القوى البحرية، كما ربحت صراع القرن التاسع عشر من قبله.

تعتقد التصورات الجيوبوليتيكية الروسية أن هزيمة القوى البرية لا تعدو أن تكون ظاهرة مؤقتة؛ تعود بعدها روسيا إلى أداء رسالتها القارية، تلك التي تأخذ في الحسبان العوامل الجيوبوليتيكية كلها التي أغفلتها تجربة روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي السابق، لتحقق في النهاية انتصارها على القوى البحرية. وحتى تتحقق الأفكار المؤسسة للجيوبوليتيك الروسي الجديد على أرض الواقع، يجب العمل على أن تكوِّن موسكو محاور جيوبوليتيكية جديدة، هي: المحور الغربي موسكو- برلين، والمحور الشرقي موسكو- طوكيو، والمحور الجنوبي موسكو- طهران. ويحقق المحور الجنوبي لروسيا (أكبر بلدان العالم من حيث المساحة) الخروج إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي، وهو هدف جيوبوليتيكي ظلت موسكو قروناً طويلة تسعى إليه ولا تتمكن من تحقيقه، سواء عبر المحيط الهندي أو مضيقي البوسفور والدردنيل أو حتى عبر جبل طارق. وبعطف ذلك على أقوال الجيوبوليتيكي الروسي البارز ألكسندر دوغين «بالتحالف مع إيران يمكن روسيا أن تصل إلى الهدف الاستراتيجي الذي لم تحصل عليه طوال مئات السنين وهو الخروج إلى المياه الدافئة، وفي مقدور إيران أن تكون الحل لهذه المعضلة الجيوبوليتيكية الكبرى»، يمكننا استنباط الأهمية النظرية لإيران في الجيوبوليتيك الروسي، ولذلك تتمثل الفائدة الأميركية من تسويتها السياسية مع إيران في الاستفادة من موقع إيران كحاجز أمام الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا الحالية من الوصول إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي، وبالتالي حسم الصراع الكوني الثالث بين القوى البرية بقيادة روسيا والقوى البحرية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية نهائياً لمصلحة الأخيرة.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة

back to top