الفضول المعرفي

نشر في 21-11-2008
آخر تحديث 21-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف» صيحة أطلقها بعض شيوخ الأزهر قبل أكثر من قرنين عندما أجرى أمامهم علماء الحملة الفرنسية بعض التجارب الكيميائية البسيطة، ويحدثنا عبدالرحمن الجبرتي في تأريخه الشهير عن غرائب الفرنسيين وعجائبهم عندما يقول في كتابه «من أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه فصب منها شيئا في كأس ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى فعلا الماءان وصعد بخار ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجرا أصفر» والجدير بالذكر أن الجبرتي كان من أكثر أبناء زمنه اقترابا من العلماء الفرنسيين المرافقين للجيش الفرنسي، فقد تردد كثيرا على معاملهم ومكاتبهم وحدثنا عن تجاربهم ورسومهم وخرائطهم وبعض آلاتهم ومعداتهم وترجمتهم لبعض سور القرآن الكريم، لكنه رغم هذا الاقتراب كان كغيره من معاصريه المصريين أعزل عاجزا عن الحوار وطرح الأسئلة وإعمال العقل، ومن ثم اكتفى بالانبهار وتسجيل مشاهداته والتعليق عليها بعبارة مازالت للأسف حتى الآن رنانة ومؤثرة «ولهم في ذلك أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج عنها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا».

غياب الفضول المعرفي كان وراء هذه العبارة الخطيرة التي اتهمت العقل المصري بالعجز والقصور، وأحاطت عقل الآخر الفرنسي بهالة من السحر والغرابة وبقدرات خارقة لا حدود لها، وبسبب غياب ذلك الفضول لم يهتم الجبرتي بمعرفة أنواع السوائل التي صبها الفرنسيون من زجاجاتهم واعتبرها كلها ماء.

ولم يهتم أيضا بالخرائط التي كان الفرنسيون يعدونها لبلادنا واعتبرها مجرد رسوم وصور عجيبة، وبوسعنا أن نجد في نظام التعليم الديني السائد في ذلك العصر، والمعتمد على النقل والحفظ والتلقين وتمجيد الماضي، والخالي تماما من علوم العصر ومستجداته، العذر للجبرتي ومعاصريه، بالإضافة الى الحكام الغرباء من المماليك والعثمانيين الذين أشاعوا الجهل والخوف والخرافات وانشغلوا فقط بالقمع والنهب والجباية.

بعد وفاة الجبرتي بأعوام قليلة أطلت بوادر الفضول المعرفي في عصر محمد علي الذي حلم بالانسلاخ عن الدولة العثمانية وبناء دولة عصرية حديثة، مستفيدا من منجزات الغرب الأوروبي. الفضول المعرفي هو الذي حول رفاعة الطهطاوي من مجرد إمام وواعظ لطلاب بعثة محمد علي في فرنسا إلى راصد ومتأمل وباحث، يقارن ويحاور ويسأل ويكتب عن باريس كتابه الشهير، مقدما فيه الآخر بوجهه الحضاري المتمثل في انشغال الفرنسيين بالحرية والدستور والقوانين والمسرح والثقافة والنظافة، متمنيا أن نحذو حذوهم وأن ننقل عنهم.

هذا الفضول المعرفي كان في الواقع سلاح معظم رواد التنوير الذين انشغلوا بالسؤال والبحث عن أسباب نهوض الأمم وتقدمها بعد أن رأوا بأعينهم نتائج ذلك النهوض، والبحث عن هذه الأسباب لم يكن فقط لمجرد المعرفة، إنما لكي نأخذ بها لبناء نهضتنا كما قال الشيخ محمد عبده ثم طه حسين الذي خطا خطوة أكبر باتجاه الغرب، مطالبا بالالتصاق به والانخراط في حضارته الحديثة والمشحونة بروح العصر.

والمدهش أن كبار رواد التنوير في بلادنا كانوا أزهريين لم يدرسوا سوى علوم الدين واللغة، لكنهم كانوا مسكونين بالفضول المعرفي الذي أطلقه الاحتكاك بالآخر ومعاينة منجزاته وثقافته، وهو الاحتكاك الذي أثر في أدبنا وفنوننا، وكان سبب ظهور فنون لم نعرفها من قبل كالمسرح والقصة والرواية وغيرها، وامتد أثره إلى التعليم الذي تغير شكله، وظل جوهره متشبثا بأساليب الماضي وغاياته.

حتى الآن مازال الفضول المعرفي مسيجا ومستبعدا، فلم يصر هدفا أساسيا للتعليم وجوهرا له ينقل الطلاب من أقفاص الحفظ والنقل والتلقين إلى فضاء البحث والسؤال والابتكار والابداع. التعليم بشكله الحالي حول المعلم والمتعلم إلى ماكينات تكرر وتكرر وتعيد إنتاج الجمود والتخلف، وحوّل المدارس وقاعات الدروس الخصوصية إلى ساحات يتمرن فيها التلاميذ في مراحل التعليم الأساسي على تقديم إجابات يحصلون بها في نهاية العام الدراسي على الدرجات النهائية تتيح لهم الالتحاق بجامعات لم تفز واحدة منها بمركز ما في قائمة أفضل 500 جامعة في العالم، ولكي يواصلوا بعد تخرجهم تكريس الركود والجمود أو الفرار من البلاد لتحقيق أحلامهم وتحديد طاقاتهم الإبداعية في بلاد أخرى تقدر الفضول المعرفي، ولكي تتذكرهم بلادنا فقط عندما يفوز أحدهم بجائزة عالمية كبرى أو شهرة علمية دولية لكي تتجمل وتزهو.

* كاتب وشاعر مصري

back to top