في تحليل الموقف الرسمي المصري من الحرب الإسرائيلية على غزة

نشر في 11-01-2009
آخر تحديث 11-01-2009 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي أساءت مصر الرسمية التعامل مع الحرب الإسرائيلية على غزة، فأخفقت دبلوماسيتها وأجهزتها الاستخباراتية حتى الآن في إدارة سلسلة الأزمات التي رتبتها في الساحات الفلسطينية والإقليمية، وعجزت حكومتها عن التعاطي بفاعلية مع تداعيات الحرب على غزة على الساحة الداخلية في مصر.

منذ أن تمكنت حركة «حماس» من السيطرة على قطاع غزة في صيف 2007 وتصفية نفوذ الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية والمقاربة الرسمية المصرية استندت إلى ثلاثة أركان رئيسة:

1- أولوية المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية عبر بوابة المصالحة بين «فتح وحماس» الأمر الذي استدعى سعي القاهرة إلى الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين دون انحياز لأحدهما على حساب الآخر.

2- حتمية الحيلولة دون انفلات الأوضاع الأمنية في غزة أو تصاعد وتيرة المواجهات بين «حماس» وإسرائيل لما قد يشكله ذلك من خطورة بالغة على أوضاع الفلسطينيين في القطاع، ولما له من انعكاسات سلبية على المناطق المصرية المتاخمة لغزة.

3- أهمية إدارة المعابر على طول الشريط الحدودي بين مصر والقطاع على نحو يضمن إنهاء حالة الحصار المفروضة إسرائيلياً على غزة منذ أن بسطت «حماس» سلطتها الكاملة عليها في 2007 ويحمي في نفس الوقت الأمن القومي المصري من خلال السيطرة على الشريط الحدودي.

وعلى الرغم من أن مصر خبرت خلال الأشهر الماضية، وقبل بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية الحالية التداعيات الكارثية لعدم إحراز تقدم فعلي في هذه السياقات أو لجمود واستمرار تدهور الأوضاع في غزة، كما دللت على سبيل المثال أحداث مطلع عام 2008 حينما تعرضت شبه جزيرة سيناء لما يشبه الاجتياح البشري من قبل ثلاثة أرباع مليون فلسطيني، وتحولت المناوشات اللفظية بين مصر و«حماس» إلى مواجهات على الشريط الحدودي بين القوات المصرية وعناصر مسلحة من «حماس»، إلا أن الدبلوماسية المصرية والأجهزة الاستخباراتية الضالعة منذ سنوات طويلة في إدارة الملفات الفلسطينية لم تتمكن من تحقيق اختراقات جوهرية وراوحت بلا فاعلية في مكانها حتى انفجر الوضع في غزة في 27 ديسمبر 2008.

فعلى الرغم من سعيها المتواصل عبر جولات وساطة متتالية بين «فتح» و«حماس»، لم تنجح القاهرة في إنجاز المصالحة الفلسطينية ودفع «فتح» و«حماس» للتوافق على صيغة لحكومة وحدة وطنية تعيد السلطة الفلسطينية إلى القطاع، وتحول دون عزله عن الضفة من جهة، وتضمن من جهة أخرى تمثيل «حماس» في الحياة السياسية الفلسطينية، وفقاً لنتائج الانتخابات التشريعية 2006، وتعمل على دمج عناصرها في الأجهزة التنفيذية والأمنية.

تعددت أوراق المصالحة التي تقدم بها الجانب المصري، إلا أن انحياز القاهرة إلى «فتح» وشكوكها المستمرة إزاء «حماس» ونواياها، أفقدها مصداقية الوسيط المحايد، ودفع «حماس» المدعومة إيرانياً وسورياً لتعويق الجهود المصرية، ثم تكرر جوهر نفس الإخفاق على مستويي التوصل إلى تهدئة بين إسرائيل و«حماس» بوساطة مصرية، والتمكن من تأمين فتح منتظم للمعابر بين مصر والقطاع، والسيطرة الأمنية عليها، فلم يسفر اتفاق التهدئة الأخير بين إسرائيل و«حماس»، الذي تم التوصل إليه برعاية القاهرة في صيف العام الماضي، واستمر العمل به لمدة أشهر ستة انتهت في ديسمبر 2008، عن إنهاء حالة الحصار المفروضة إسرائيلياً على غزة، والتي عنت فعلاً كارثة إنسانية وحياتية لسكان القطاع أو عن توقف خروقات قوات الاحتلال للتهدئة في سياق تعقبها لعناصر من «حماس»، وهو ما دفع الأخيرة للرد أحيانا بإطلاق صواريخ القسام على جنوب إسرائيل. ومع قناعتي بأن «حماس» أخطأت استراتيجياً حين بادرت بإعلان رفضها مد العمل بالتهدئة معطيةً الآلة العسكرية الإسرائيلية بذلك المبررات للهجوم على غزة، فإن الثابت أيضاً أن التهدئة خلال الأشهر الستة الماضية لم تقدم للفلسطينيين المرجو منها سواء برفع الحصار الإسرائيلي أو بفتح المعابر بين مصر والقطاع، أما الحصيلة التي خرجت بها مصر الرسمية، وهي لم تمتعض طويلاً من استمرار الحصار أو تكرار الخروقات الإسرائيلية، فجاءت شديدة السلبية، حيث بدت القاهرة فلسطينياً وإقليمياً بمظهر الفاعل العربي الكبير الذي يخدم في المقام الأول مصالح قوة الاحتلال في غزة، ويفتئت على حقوق الفلسطينيين المطالبين بالتزام التهدئة وقبول الحصار في آن، ويسمح في التحليل الأخير بتفاقم الوضع على تخومه الشرقية بالرغم مما في ذلك من تهديد لأمنه القومي.

بكل تأكيد لا تتحمل مصر الرسمية بمفردها مسؤولية انفجار الأوضاع في غزة، فالتعنت الإسرائيلي المعتاد والنزوع المعهود نحو توظيف الآلة العسكرية ومن ورائهما رفض تل أبيب المبدئي للتعامل مع «حماس» كحقيقة فلسطينية واقعة من المستحيل إلغاؤها ساهمت كعوامل في الدفع نحو الحرب الحالية.

كذلك جانبت حسابات «حماس» الاستراتيجية، وحقيقة تأثرها بالخيارات الإيرانية والسورية صارت بمنزلة كلمة السر المعروفة سلفاً وللجميع، الصواب حين توقع قادة الحركة أن تصعيداً محسوباً ضد إسرائيل، جوهره رفض مد العمل بالتهدئة وإطلاق بعض الصواريخ على الجنوب، ربما أقنع تل أبيب بتجديد التهدئة بشروط أفضل أهمها إنهاء حالة الحصار، وهو ما أثبتت الأيام القليلة الماضية فساد منطقه. إذن لا تتحمل القاهرة المسؤولية بمفردها، إلا أن موضوعية التحليل تقتضي التشديد، كما أسلفت أعلاه، على المسؤولية الجزئية للقاهرة فيما آل إليه الوضع في غزة قبل بدء الحرب الإسرائيلية عليها.

إن كانت مصر الرسمية بأدواتها الدبلوماسية والاستخباراتية قد أخفقت جزئياً قبل بدء الحرب على غزة، فإن عجزها وسوء إداراتها للأزمة استحالا عنصرين رئيسين في المشهد المأساوي الذي طالعته بنا غزة في الأيام الماضية. استقبلت القاهرة وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في 25 ديسمبر 2008، ومنها أطلقت تصريحات نارية وإبادية باتجاه «حماس» سرعان ما دخلت حيز التنفيذ بعد يومين مع بدء العمليات العسكرية على النحو الذي جعل مصر تبدو بمظهر الدولة المتواطئة أو الموافقة صمتاً على الفعل الإسرائيلي.

ثم جاءت بعد الساعات الأولى للحرب، وخلالها قتل أكثر من 150 من الفلسطينيين، تصريحات وزير الخارجية أحمد أبو الغيط وبها حمّل «حماس» مسؤولية ما يجري في القطاع نظراً لتجاهل التحذيرات المصرية وتخاذل عن الإدانة الصريحة لإسرائيل، لتصنع صورة بالغة السلبية لمصر في محيطها العربي، قلبها الضعف الشديد والتحالف مع تل أبيب على حساب حقوق الفلسطينيين ومصالح العرب.

وتواكب مع تصريحات أبو الغيط المستفزة تمسك مصر الرسمية بإغلاق المعابر بينها وبين غزة كمسلمة لا تقبل النقاش وبغض النظر عن معاناة فلسطينيي القطاع إزاء الهجمة الإسرائيلية، ودون خطاب تبريري واضح ومقنع للرأي العام العربي بل المصري، وكانت النتيجة تصاعد حملة نقد عنيفة للموقف الرسمي المصري قادتها «حماس» وساهم بها دون ريب ولأهداف عديدة معسكر إيران-سورية-حزب الله اتهمت مصر، بيد أن الأهم هو احتضان الشارع العربي لها وتواتر الفعاليات الاحتجاج الشعبي ضد مصر في عواصم عربية مختلفة (بيروت وعمان وصنعاء على سبيل المثال) وتزايد حدة الاتهامات الموجهة للقاهرة بالتواطؤ والتآمر على الفلسطينيين. وحين بدأت الدبلوماسية المصرية في الحراك جاءت خطواتها الأولى إما معوقة للعمل العربي الجماعي وإما مفتقدة للبوصلة الاستراتيجية. اعترضت مصر على الاقتراح القطري بعقد قمة عربية طارئة، ومع أنها لم تكن بوحيدة بين العرب بموقفها هذا إلا أن معارضتها فسرت شعبياً كدليل إضافي على التواطؤ ورغبة في إعطاء إسرائيل مزيداً من الوقت لتصفية «حماس» في غزة. ثم لم يخرج محتوى ما طرحته مصر الرسمية من مبادرات دبلوماسية سواء بالتنسيق مع تركيا أو مع القوى الأوروبية عن المطالبة بوقف إطلاق النار من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، والوعد بضمانات دولية لإنهاء حالة الحصار على غزة وفتح المعابر شريطة عودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى القطاع، وذلك على الرغم من رفض إسرائيل المستمر لهذه المقترحات، وتحفظ «حماس» على شقها المتعلق بالسلطة.

وأخيراً، انفصلت مصر الرسمية إلى حد بعيد عن الشعور الجمعي للرأي العام المصري وتعاطفه الذي أوضحته مظاهرات لا تهدأ تجوب البلاد من شمالها إلى جنوبها مع أهل غزة و«حماس» على نحو أضحت معه المواقف الرسمية، وباستثناء لحظة غضب قصيرة بعد هجوم الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله على الرئيس مبارك ودعوته الجيش المصري للتدخل والمصريين للتمرد رتبت حالة من التماهي مع النظام، في عزلة داخلية بينة.

تلك هي أهم أسباب ومناحي الإخفاق الرسمي المصري في التعامل مع ملفات غزة قبل 27 ديسمبر 2008 وبعده. اليوم تبدو القاهرة عاجزة، فلا إسرائيل تستمع لها ولا «حماس» كفصيل فلسطيني رئيسي باتت تثق بقدرتها على الوساطة بحيادية وهناك من القوى الإقليمية من يتأهب للحلول مكان مصر (تركيا).

اليوم، وعلى الرغم من الخطاب الرسمي الواضع حين النظر لغزة والشريط الحدودي والمعابر لأمن مصر القومي في المقدمة قبل اعتبارات العروبة والانتماء القومي والدور الإقليمي، ثمة مخاطر جمة تتهدد حدود مصر الشرقية وحال غزة على ما هو عليه الآن.

اليوم، وللمرة الثانية بعد زيارة الرئيس السادات للقدس 1977 ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية 1979، تتحرك دبلوماسية القاهرة في بيئة إقليمية يصوغها على الأقل جزئياً شارع عربي رافض لمواقف وسياسات مصر وفي لحظة يغيب بها عن الفعل المصري خيط استراتيجي واضح ينتظم المواقف والسياسات ويخاطب العرب، والمصريين من قبلهم برؤية لمستقبل المنطقة ومستقبل الدور الإقليمي المصري لها من التماسك والجراءة ما قد يعوض جزئياً رفض الكثيرين لها.

* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن

back to top