زمن الغناء

نشر في 12-12-2008
آخر تحديث 12-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان قبل عقود كانت الأغاني تسهم في تشكيل الوعي وإثراء الروح وإضاءة المستقبل، وكان الناس في المدن والقرى ينتظرون جديد أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب وعبدالحليم حافظ ومحمد رشدي وغيرهم من المطربين والمطربات، في الوقت نفسه كان المطربون الشعبيون والموسيقيون يحظون باحترام ومحبة الناس في القرى، فقد كانوا أقمار ليلها وصناع بهجتها، وكنت في صباي أسعى خلف هؤلاء المطربين إلى الموالد والأفراح للاستمتاع بالعزف والغناء، وكان الأسى يعصرني عندما أرى هؤلاء العظماء يكدون نهاراً كغيرهم في حقول القرية وأسواق المدن، ويدهشني ذلك التحول الهائل الذي يحدث لهم ليلاً ويُسفر عن اختفاء الوجوه المُتعبة والمغبرة والأصوات الواهنة والمسكونة بالحزن وهموم السعي والكد، وبروز الوجوه الأخرى المتوهجة والأصوات المشعة والأصابع القادرة على إنطاق الدفوف والطبول وإشاعة البهجة.

كنت في المدرسة الإعدادية عندما دفعني الانبهار بالموسيقى والغناء إلى كتابة المواويل والأغاني والأناشيد الوطنية، وإلى شراء كتيبات المطربين التي كانت تضم صورهم وأغانيهم، والتي كانت تباع في ذلك الزمن البعيد بملاليم قليلة بسبب ندرة أجهزة الراديو، خاصة في القرى، ثم قررت احتراف الغناء وأضفت إلى ألقابي العديدة لقب المطرب القدير، عندما أشاد بعض تلاميذ مدرستي بصوتي وقدراتي الغنائية، ولكي أعد نفسي لمهنة الغناء رحت أغني في الحقول أغاني عبدالوهاب وفريد الأطرش ووديع الصافي وعبدالحليم حافظ وغيرهم، بالإضافة إلى المواويل والأناشيد والأغاني التي أكتبها، لكنني اصطدمت فجأة بوالدي الذي سألني عن سر هذا الضجيج الذي أحدثه، وعندما أخبرته بزهو وثقة أنني سأصير مطرباً عظيماً، هجم عليّ وهو يقول «صوتك زي صوت المعلم كرشة، ومش كل من هبّ ودبّ يقدر يغني» وكان المعلم كرشة يملك صوتا غليظاً ومرعباً شغل بسببه وظيفة المنادي الرسمي للقرية، ودور وزارة الإعلام، وكان ظهوره في الشوارع مصحوباً بالخفراء لا يعني سوى الكوارث، فقد كانت نداءاته إنذارات من الدولة وجهات الإدارة موجهة للأهالي أو تحذيرات من أوبئة أو آفات تهاجم حقول القطن، وتحث الناس على تشكيل فرق المقاومة اليدوية، ولأنني كنت أضع والدي في صفوف المحافظين على القديم والمتشبثين بالماضي الذين لا يحبون عبدالحليم حافظ وأغانيه، فقد واصلت تماريني الغنائية في الحقول البعيدة، وبعد انتقالي إلى القاهرة لدراسة الصيدلة في منتصف الستينيات تخيلت أنني أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلمي الكبير، وواصلت تماريني الغنائية ليلاً بعد الانتهاء من مراجعة الدروس، لكنني فوجئت بصاحب المنزل الذي أقيم على سطحه، وكان شيخاً فاضلاً ورحيماً يستوقفني في الشارع صباحاً ليقول لي «هل أحضرت معك من القرية ثوراً أو ذئباً أو حماراً؟»، وعندما أجبت ببراءة وسرعة «كيف يمكنني الصعود بهذه الحيوانات إلى السطح» انفجر ضاحكاً وهو يقول «قلت هذا الكلام لجيرانك الذين أرادوا استدعاء رجال الشرطة لأنهم يسمعون في الليل جعيراً وعواءً يوقظهم ويفزع أطفالهم».

وضعت كلمات الشيخ حداً لأحلام الصبي المغني، فتخليت عن لقب المطرب وقنعت بدور المستمع المستمتع والمتابع، وانفتحت مكتبتي الغنائية في القاهرة لكل أغاني فيروز وصباح فخري وغيرهم من المطربين الكبار الذين لم تصل أغانيهم إلى قرية الستينيات، وتسللت إلى قصائدي عبارات من أغانينا وأناشيدنا القديمة، وحملت بعض قصائدي عناوين «هل ستظل تغني عاش الجيل الصاعد؟»، «بيروت يا بيروت»، «فيروز كانت تغني» وغيرها وغيرها.

وبعد كل هذه الأعوام مازلت أتذكر حفلات أم كلثوم والزحام في مقهى القرية حول جهاز الراديو، وتمايل الناس طرباً وانتشاءً وفرحاً كلما شدت المطربة العظيمة أو كررت مرة بعد أخرى «أروح لمين»، ومازلت أعجب أيضاً لتجاوب الناس في ذلك الوقت واستمتاعهم على الرغم من أمية أغلبهم بقصائد الفصحى التي غنتها.

توارى زمن الغناء في ربع القرن الأخير بعد رحيل معظم الكبار، وبعد التحول السياسي والثقافي والاقتصادي، وبروز قيم الفهلوة والسرعة والشطارة والتسويق، وسيادة القفز والرقص والعواء وصناعة النجوم، لكي يغني كل من هبّ ودبّ من أمثال المعلم كرشة ويلوثوا الهواء والوجدان.

* كاتب وشاعر مصري

back to top