لقاء ترينيداد تاريخي بالفعل
يحتل الرئيس باراك أوباما، منذ أن تسلم كرسي البيت الأبيض، مكانة خاصة في السياسة الدولية وشؤونها الإعلامية، فأينما رحل وخطب صار حديثه موضوعا للتحليل والتشخيص لدى المهتمين بتوجهات السياسة الأميركية الجديدة، ومتى ما نطقت هيلاري كلينتون وفتحت فمها بتصريح كوزيرة خارجية للدولة العظمى بات موضوعها كذلك قيد التحليل والتشخيص، فهي الصوت الآخر للسياسة الخارجية لتلك الدولة، وهي المكمل دائما لتلك التوجهات الرسمية التي ينطق بمفرداتها وفقراتها الرئيس أوباما نفسه. إذ تبدو السياسة الخارجية الأميركية الجديدة أكثر توازنا وإتقانا للأوركسترا الجماعية وإن كانت في طور شهورها الأولى، ومن الصعب اعتبارها نهائية، كونها أمام امتحان طويل وشاق، وأمام سياسات دولية متنوعة وصعبة ومختلفة، فليست أفغانستان بنفس عقدة العراق مثلما العراق ليس كخيوط وتعقد القضية الفلسطينية، وليست القارة الأفريقية بكل تعقيداتها مثل الخارطة اللاتينية التي تبدو فيها الأمور سهلة، ولكنها تتضمن «موزاييك» من الكتل المتباينة، التي تشكل، برغم تناقضاتها الداخلية، كتلة اقتصادية مهمة للقارة القريبة منها. من هنا كان اللقاء التاريخي لقمة منظمة القارة الأميركية بأعضائها الذين حضروا إلى البلد المقسم إلى عدة جزر يحتل العنوان الرئيس في إعلام الأرخبيل لاسيما جزيرتي ترينيداد وتوباغو... تلكما الجزيرتان، رغم صغرهما، كانتا ذات يوم مصدرا من مصادر التفجرات الثورية وفي ذات الوقت مكانا حيويا للقواعد العسكرية الأميركية، حيث كانت في فترة الحرب الباردة تشكل المنطقة برمتها مصدرا من مصادر الصراع، إذ كانت الأفكار الثورية التي تقودها كوبا كقوة وقاعدة أمامية، مصدر قلق وتوتر للرأسمال العالمي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية.؟ فبعد سقوط نظام نيكاراغوا كحليف متين لكوبا ونهجها الاشتراكي الجديد في منطقة الكاريبي، ومن قبلها كانت حكومة الليندي التي شكلت نقطة ارتكاز أخرى في قارة أميركا الجنوبية، كلها جعلت الاستخبارات الأميركية وسياستها الخارجية تخرج من طورها فتحرك أصابعها وقفازاتها الخفية ليلا ونهارا إلى أن نجحت بقواها الداخلية في تحريك اليمين العسكري والمدني، عبر صناديق الاقتراع تارة وانقلاب عسكريي دموي في إعادة أنظمتها السابقة تارة أخرى، ولكنها «المخابرات» اليوم تُدخل كل تلك الأنظمة في حقبة جديدة من النزاع الداخلي المدني بين اليمين واليسار، في ألفية ثالثة ركنت الجنرالات تاريخيا وحجمت من سلطتهم وأعادت إلى القارة حقوقها التاريخية ودساتيرها المعطلة، فباتت صناديق الاقتراع في كل القارة هي المصدر الوحيد للصراع والتسابق بين شتى القوى السياسية مهما كانت توجهاتها وألاعيبها وتشبثها بالسلطة. ما يفعله شافيز في بلده من تمديد انتخابه أو ما تفعله القوى الخارجية في بوليفيا أو يفعله رئيسها في حجج إثنية وصوم صبياني في قصر الرئاسة، كلها، تدلل على نزاع شديد من أجل السلطة ونزاع مدني أشرس وأساليب خلف الكواليس من أجل الدفاع عن مصالح اليسار ضد اليمين أو اليمين ضد اليسار، فكل ما علينا تتبعه اليوم هو الخريطة السياسية الملتهبة في القارة.فحينما ينتصر اليمين ويصعد باستلامه السلطة وبعد سنوات أخرى ينتصر اليسار ويستلم السلطة، فتعيد كل قوى تنظيم صفوفها بقوة واستخدام كل وسائل التخريب والشعوذة السياسية، ورفع شعارات تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بضرورة التغيير والدفاع عن مصالح الفقراء وتدهور الأوضاع المعيشية واتساع حجم البطالة.لسنا هنا في هذه المقالة بهدف توصيف تفاصيل كل بلد على حدة وبتسليط الضوء على حقيقة صراعه، إنما على أهمية ذلك الموازييك السياسي الذي يشكل تكتلا مهما فإنه بدأ يستوعب مصالحه، ويضع تناقضاته الثانوية خلف ظهره، مفضلا أن يدافع عن مصالحه الأساسية، ولا يتوه في دهاليز تلك التفاصيل العمياء بين الأنظمة المتجاورة، ولا يورط نفسه في نزاعات ثنائية كما حدث بين كولومبيا والإكوادور، والتي سارعت المنظمة إلى استيعابها وحصرها ومعالجتها بأسرع ما يكون، وبحيث تقطع الطريق على بروز صعود العسكر- وفسادهم- إلى السلطة مجددا، في دول قررت نهائيا أن تحجّم دور تلك القوة المتنفذة والفاسدة والقاسية طوال هيمنتها وتحكمها. في هذا المؤتمر التاريخي الذي كانت الولايات المتحدة برئاسة أوباما متألقة، وجاءت برداء وهيئة سياسية مختلفة، وفي ذات الوقت جاءت القارة الجنوبية بروح وبرداء جديد، تقاربت الرؤى والوجهات، وقد اختزلها أوباما في خطاب تاريخي واضح وكانت كوبا عنوانا لتلك المسألة وبوابة لمصداقية التوجه. ومن المهم أن يعلن أوباما شراكة متكافئة ولا يهم حجم البلد، وأن تبدأ صفحة جديدة مع كوبا، ولا تهم الأجندة المعروفة أثناء اللقاء، حيث لن تحل تلك المسألة– كما قال أوباما نفسه- إلا بعد خوض مرحلة شاقة من أجل التغلب على عقود عديدة من انعدام الثقة بين الطرفين، وبأن هناك خطوات مهمة نستطيع أن نخطوها من أجل أن يبزغ فجر جديد! بتلك الروح جاءت مفردات الرئيس الأميركي الذي وزع ابتساماته على الجميع ودون توتر، فيما راح الرئيس شافيز يعبر عن نزعته التثقيفية، ناسيا أن كل الكتب الصادرة في القارة موجودة في مكتبة الكونغرس، ولا يحتاج أوباما لكي يعيش عقدة الماضي والرجل الأبيض كي يقرأها، فليس هو المسؤول عن كل تلك الآلام الممتدة لقرون وللشعوب قاطبة، المهم أن تتقدم القارتان فيما يمكنهما فعله دون الدخول في الشطحات الإعلامية. * كاتب بحريني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء