Man on Wire... قصّة شغف وسعادة!

نشر في 02-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 02-09-2008 | 00:00

بالكاد نستطيع وصف الفيلم الوثائقي الرائع لجايمس مارش بعنوان Man on Wire بالدراما المؤثّرة. يتمحور حول فيليب بوتي، الفرنسي الذي يمشي على الأسلاك والذي أمضى في 7 أغسطس (آب) 1974 ما يقارب الساعة وهو يمشي ويرقص ويركع، بذراع واحدة ممدودة على شكل تحية، ويتمدد على سلك معلّق على علو 1350 قدماً فوق الشارع بين قمتي مركزي التجارة العالميين.

عندما عاد بوتي إلى اليابسة مكبّل اليدين ومتهماً بالتعدي على القانون، الأمر الوحيد الذي أراد المراسلون معرفته هو سبب قيامه بذلك. يستذكر قوله أمام عدسات آلات التصوير بعد عقود لاحقة: «فعلت أمراً رائعاً وغامضاً، والكل سألني لماذا؟ ما من سبب محدّد». يتخذ الفيلم، الذي سيطلق محلياً قريباً، مقاربةً أكثر إنتاجيةً. يسلط الضوء على كيفية قيامه بذلك (تشكل الاستعدادات شبه العسكرية قصة رائعة بحد ذاتها) وفي المقام الأول على شخصه، وهو رجل حفّزته أحلام العظمة الرومانسية ورؤى جمالية على تحدّي الموت وتأكيد الحياة.

عملية سرقة

كان المشي بين مركزي التجارة العالميين، أطول مبنيين في العالم آنذاك، من أكثر مآثر بوتي أهمية عند ذلك الحد فحسب. خاض المجازفة عينها سابقًا في كاتدرائية Notre Dame وجسر الميناء في سيدني (حيث انتزع إحدى الساعات من معصم أحد الشرطيين الذين ألقوا القبض عليه). يبدو بوتي أقل قلقاً حيال الجاذبية منه حيال التحديات المعقّدة لتلك التحضيرات التي تطلبت ثمانية أشهر والتي شبّهها بعملية سرقة مصرف، ذلك على الأرجح لأن أية خطوة خاطئة في مركز التجارة العالمي لن تكون أكثر فتكاً من السقوط في مناسبات سابقة عن علوٍّ منخفض. قُتل، فعلاً، رجلان يعملان في غسل النوافذ منذ فترة قصيرة بعدما وقعا عن علو 40 قدماً من المركز المالي العالمي.

ما يجعل فيلم Man on Wire في غاية التشويق والتسلية هو جزئياً مهارة المخرج في إعداد تفاصيل تلك الحركة غير القانونية، لا سيما عبر مقابلات أجراها مع فيليب وفريقه. كانوا جميعهم في ريعان شبابهم آنذاك وقد أصبحوا الآن في متوسّط العمر. يتضمن الفريق ثلاثة أصدقاء فرنسيين أوفياء، من ضمنهم صديقة فيليب آنذاك، آني أليكس، فضلاً عن شركاء أميركيين يختلف حسّ الوفاء لديهم. يشار إلى أن أحدهم، وهو موسيقي مدمن على المخدرات، اختفى في الليلة التي سبقت الحدث الكبير. يضيف مارش إلى قصتهم المشتركة تعديلات بأسلوبه، فهي ليست من نوع المقاطع الجدية الشبيهة بالدرامية التي يستخدمها إيرول موريس في بعض الأحيان لتجميل الوقائع الموثّقة على نحو مثير للجدل، وإنما إضافات ذكية وحماسية تحفز نغمة فيلم مشوّق عن الجواسيس.

أما الجزء الآخر المثير للإعجاب فيتأتى من الطبيعة الفريدة للمكان، ومرور الزمن المشؤوم. يشبه التحضير لحدث بوتي الذي لا مثيل له عملية سرقة مصرف. يدعي أحد أعضاء الفريق بأنه صحافي فرنسي يقوم بواجبه، ويستخدم آخرون هويات مزوّرة لتخطّي حرس مركز التجارة العالمي، ويقودون شاحنة صغيرة تحتوي على نحو طن من الكابلات ويتزودون بالمعدات في مرآب تحت الأرض، ومن ثم يهرّبون المعدات كافة إلى الطوابق العلوية، حيث يخفونها طيلة الليل تحت مراقبة رجال متجوّلين. مع ذلك، تردد مغامرات الفريق حتماً أصداءً مخيفة عن الهجمات الإرهابية. لكن الفيلم يمتنع بحكمة عن ذكر تلك الأمور، سواء تفجير العام 1993 أو هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. الإيعاز الأقرب إلى تعليق مماثل هو عبارة عن صورة جامدة مخيفة، أشبه بخداع بصري، التقطت من الأسفل لبوتي وهو يمشي على السلك في حين تبدو طائرة ركاب تطير عالياً فوقه باتجاه أحد البرجين.

لا تتطلب الأفلام الوثائقية العظيمة، وهذا واحد منها، مواضيع عظيمة وإنما أدلة داعمة ووافرة. يفي Man on Wire بالغرض عبر تصويره لقطات مؤثّرة لمركز التجارة العالمي وهو قيد البناء، يتخللها مشاهد لفيليب الذي يساعده أصدقاؤه في التمرّن على المشي على السلك الممتد بين مبنيي التجارة العالميين، في مرج فرنسي مرقّط بأشعة الشمس وعليه يافطة تقول باللغة الإنكليزية: «جمعية مركز التجارة العالمي». كان بوتي، الذي يعتبر مخرجاً بامتياز على طريقته، يوثّق أعماله البطولية منذ سنوات المراهقة في فرنسا، في أفلام وأشرطة مصوّرة محلية. يظهر في أحد الأشرطة الأكثر تعبيراً وهو يرتدي زي مهرج ويعتمر قبعة طويلة، ويدور في شوارع باريس على دراجة أحادية العجلة.

تبدو تلك الصور وكأنها أخذت من فيلم Children of Paradise، وهو ملحمة مارسيل كارنيه الذي صوّر في باريس، ولم تظهر بالصدفة، فهي تعبّر عن حسّ بوتي بذاته، لا بل الحسّ الدقيق الكامل بذاته، كرجل ترفيه في التقاليد الفرنسية الكلاسيكية. تصوّر اللقطة الأولى من فيلم كارنيه بهلواناً يقوم بالأداء في معرض يقام في أحد الشوارع، وتدور معظم القصص في مسرح Théâtre des Funambules، وثمة تشابه مذهل بين أحد نجوم الفيلم الراحل جان-لوي بارو وبوتي.

يعتبر فيلم Man on Wire، من بين أمور أخرى، قصة هاجس (تقول آني أليكس: «بدا الأمر وكأن البرجين بنيا من أجله») وقصة حب (أو يمكن للمرء أن يقول قصة حب للذات، أو قصة تتألف من آني وفيليب والسلك الذي يستخدمه). تنظر آني، صاحبة العينين الواسعتين الجميلتين والشغوفة في شبابها، بهاتين العينين وبشغف متّسع إلى سيرة حياتها مع فيليب –تقول: «عندما عرّفني إلى سلكه لم يفكر أبداً في سؤالي عما إذا كنت سأتبع مصيري الخاص»- وإلى انتصاره في مبنيي التجارة العالميين. كذلك، تستحضر إدراكاً لمحدودية حبهما، بما أنه خانها بعد أيام من انتصاره، عندما أقام علاقة مع معجبة أميركية. تقول آني بأسف مؤثر: «شاهدت فيليب وهو يكتشف ماذا يعني أن يكسب المرء الشهرة»، ومن ثم يتحوّل الفيلم بحكمة متجدّدة إلى مناقشة ما تلا من أحداث.

معزوفات مؤثرة

يرفع الفيلم الوثائقي لجايمس مارش معيار القصة إلى أعالي ناطحات السحاب، فهو عمل مستوحى يشوبه تشويه الأفلام المحلية لملء شاشة كبيرة فحسب، وخاتمة مقززة قصيرة. اختيرت مقطوعات مايكل نيمان الموسيقية الأصلية بعناية، وكذلك استخدام مقطوعة The Lark Ascending لرالف فوغان ويليام وإحدى معزوفات إيريك ساتي على البيانو Gymnopédie لمرافقة رقصات بوتي البهلوانية في الهواء، وهي معزوفات تتم في جو من الاسترخاء المفرح. كان بوتي مسترخياً للغاية وهو يمشي على السلك الممتد بين البرجين إلى حد أنه سمح لنفسه بالنظر إلى الأسفل، ويدعي أنه استطاع سماع الحشود في الأسفل. ما من سبب لعدم تصديق ما يقوله.

كذلك استخدم مارش إضافات درامية، على الرغم من أنها أكثر سوداويةً من أحد الأفلام الفريدة من نوعها التي أخرجها عام 1999 بعنوان Wisconsin Death Trip. يعيد هذا الفيلم، المقتبس من كتاب مايكل ليزي الذي يحمل العنوان نفسه، الكوارث التي أدت إلى تفشّي وباء مادي وعاطفي اجتاح بلدة بلاك ريفر فالز الريفية في ويسكنسن في أواخر تسعينات القرن التاسع عشر. إن بدا ذلك مرعباً، فهو كذلك بالفعل، لكن تاريخ البلدة، الذي يروى في صور بالأبيض والأسود وقصاصات من الصحف ومقاطع تقرأ من الكتاب، مليء بالفكاهة القاتمة. الراوي هو إيان هولم.

back to top