صفحات مطوية

نشر في 18-01-2009
آخر تحديث 18-01-2009 | 00:00
 محمد سليمان معظمنا لا يتذكر المناصب العديدة التى شغلها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، فالمناصب والمقاعد العالية لا تُخلد الصغار أو تطيل قاماتهم، فهم عادة يتوارون بعد تقاعدهم وانحسار سلطتهم وهيبتهم، لكن لقب أستاذ الجيل التصق بأحمد لطفي السيد وصار علامة عليه قبل رحيله وبعده، فقد انشغل في أوائل القرن الماضي بقضايا الحرية والتنوير والتغيير وبناء المستقبل واللحاق بالغرب المتقدم انطلاقاً من عبارة أستاذه محمد عبده الشهيرة «علينا أن نبحث عن أسباب نهوض الأوروبيين وتقدمهم لنأخذ بها».

شغل أستاذ الجيل العديد من المناصب، فقد كان مديراً لدار الكتب، ومديراً للجامعة المصرية، وعضواً في البرلمان، ووزيراً للمعارف، ثم وزيراً للخارجية، كما كان يرأس مجمع اللغة العربية من عام 1945 حتى وفاته 1963، لكن المفارقة الكبرى والمدهشة تتمثل في شغله منصب وزير الداخلية الذي يحتكره عادة في بلادنا كبار ضباط الشرطة المشهود لهم بالحزم والصرامة والقدرة على ترسيخ الأمن والاستقرار ومطاردة أعداء النظام والخارجين عليه ورواد التنوير والداعين إلى إيقاظ الجماهير وتعظيم قوة الرأي العام لمقاومة استبداد الحكومة وتسلطها، وأحمد لطفي السيد كان واحداً منهم، فهو يتحدث عن الرأي العام في مقال نشرته صحيفة «الجريدة» في مايو 1908 قائلاً «فرض عين على كل منا أن يعتقد بسلطة الأمة وينشر حوله في دائرته هذا الاعتقاد، فقدرة الأمة فوق قدرة الحكومة... وهذا الاعتقاد إذا جعله كل منا إيمانه السياسي بلغنا بقوته ما نطلب من تغلب قوة الرأي العام على قوة الحكومة».

قبل أسابيع أصدرت مكتبة الأسرة كتاب «صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر» الذي يضم مقالات أحمد لطفي السيد التي نشرتها «الجريدة» صحيفة حزب الأمة الذي شارك في تأسيسه على مدى عامين من مارس 1907 إلى مارس 1909، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى الغوص في الماضي وتسليط الضوء على الانقلاب الفكري الذي قاده رواد حركة التنوير قبل أكثر من قرن، وفي مقدمتهم أستاذ الجيل بمقالاته التي جمعها وأعدها للنشر إسماعيل مظهر الذي يقول في المقدمة «هذا الكتاب القيم هو أول عمل من نوعه في تاريخ الآداب المصرية، فهو أول كتاب في الأدب السياسي الذي يتألف من عدة عناصر أهمها المقالة السياسية والتراجم والتاريخ السياسي والمذكرات».

والانقلاب الفكري المُشار إليه تمثل في إعلاء شأن العقل وتمجيد الإنسان وتقديس حقوقه، ومن ثم الانشغال بقضايا الحرية؛ الاستقلال؛ التقدم؛ التعليم؛ مواجهة الفقر والقمع والاستبداد، وهي القضايا التي لم ننجح بعد أكثر من قرن في معالجتها والتصدي لها، فأستاذ الجيل يطالب بالدستور ويهاجم الحكومة المستبدة التي تغلق المقاهي وتعطل الاجتماعات والاحتفالات وتسمح لرجال الشرطة بممارسة العنف والاعتداء على الناس في الشوارع بلا مبرر «ليسمح لي المتسامحون في أمر الحرية الشخصية أن أقول إن تعدي الحكومة على شخص واحد في غير الحدود المبنية بالقانون هو تعدٍّ على حرية الأفراد جميعاً» ثم يدعو صحف عصره إلى الانشغال بإيقاظ الناس وسحبهم من جحور الخوف والسلبية والعمل على تشكيل وتعظيم رأي عام يتوقف النجاح السياسي على قوته وتأثيره «كلما تصاعد تأثير الرأي العام ازدادت الحكومة ضعفاً في استبدادها» ثم يتناول أخطر قضايا عصره وعصرنا «التعليم» فيقول «أما طريقة التعليم فهي طريقة الكُتـّاب العقيمة، يُعلم الأستاذ التلميذ أو يلقنه ما في الكتاب وهذا لا ينمي من الملكات العامة إلا ملكة الحافظة أو التقليد لكن الملكة المفكرة مَلكة الإبداع والاختراع والإدراك والتفكير فتبقى دائما طفلة تتطفل على المحفوظات وآراء الآخرين لتظل واقفة عند وظيفة النقل».

وسنلاحظ أن ثنائية العقل والإبداع في مقابل النقل والاتباع شكلت أهم القضايا الفكرية التي ترددت على مدى أكثر من قرن في كتابات وإبداعات الأفغاني، ومحمد عبده، ولطفي السيد، وفرح أنطون، وطه حسين، وأحمد أمين، وسلامة موسى، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وأدونيس، وعابد الجابري ثم كُتاب وشعراء جيلي الستينيات والسبعينيات المصريين والعرب، والمؤلم أننا لم نستطع بعد كل هذا الوقت والجهد إعلاء شأن العقل ورفع رايته والاعتراف بسلطة المعرفة، وقدرتها على تغيير ملامح الواقع، وكأن كل هؤلاء الكتّاب كانوا ومازالوا يكتبون على الماء أو يخُطّون في الهواء.

* كاتب وشاعر مصري

back to top