إبداع

نشر في 17-04-2009
آخر تحديث 17-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان بين عامي 1975 و1985 كانت الحياة الثقافية المصرية تعتمد على مجلات ومطبوعات الماستر الفقيرة، وعلى الجماعات الشعرية والأدبية التي تشكلت في أواخر السبعينيات لمواجهة أزمة النشر، وتقديم الكتابة الجديدة والشعراء والكتّاب الجدد، وكان توزيع هذه المطبوعات محدوداً ويتم غالباً في المقاهي التي يرتادها الكُتّاب، وفي عام 1983 ظهرت مجلة «إبداع» وفتح رئيس تحريرها الناقد الكبير الراحل د.عبدالقادر القط أبوابها للمبدعين الجدد، وجعل من مقرها ساحة للحوار حول مفاهيم وأهداف الحداثة– التمرد– التجريب، وقد نجح الرجل رغم عدم اقتناعه التام بمعظم أفكاره في ذلك الوقت في تقديم وترسيخ شعراء وكتّاب ونقاد جيل السبعينيات، ونجح أيضاً بسبب رحابة صدره وقدرته على اكتشاف الجديد الجيد والترحيب به في القضاء على مجلات ومطبوعات الماستر، وجعل مجلة «إبداع» منبراً متميزاً وملاذاً للتجريب الإبداعي الجاد في مجالات الإبداع المختلفة، ثم شغل الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي منصب رئيس تحرير المجلة في بداية التسعينيات مع تصاعد المد الإرهابي وأعاصير التشدد والتحرش بالمبدعين والمفكرين، وتفتيش كتاباتهم بحثاً عن مبرر للتكفير أو الاغتيال.

ومن ثم خاضت مجلة «إبداع» الكثير من المعارك وصارت مصدر هم دائم ومقلق لرئيس هيئة الكتاب التي تصدرها، ولوزير الثقافة نفسه الذي استجوب في مجلس الشعب في منتصف التسعينيات بسبب قصيدة نشرتها المجلة للشاعر عبدالمنعم رمضان اعتبرها مقدم الاستجواب خادشة للحياء، وتهدد قيم مجتمعنا الأخلاقية، كما أثارت المجلة عاصفة انتقاد وغضب أخرى في أوساط المتشددين عندما نشرت صور بعض الأعمال الفنية العالمية الشهيرة التي اعتبرت من جانبهم إباحية، وتحرض على انتهاك القيم وتجميل الخروج عليها.

لكن المجلة رغم هذه العواصف واصلت رحلتها وساهم أحمد عبدالمعطي حجازي بجهده وخبراته الشعرية في فرز وغربلة شعراء السبعينيات بالنشر لهم، ثم بالكتابة عن بعضهم في جريدة الأهرام عام 1991 تحت عنوان «أحفاد شوقي» ومن الطريف أن نقادنا الذين كان عليهم القيام بالفرز النقدي وتسليط الضوء على أهم شعراء هذا الجيل تخلوا عن دورهم لأحمد عبدالمعطي حجازي، فلم يعترض ناقد واحد على أحد الشعراء الأربعة الذين اختارهم حجازي وتحمس لهم وكتب عنهم، ولم يقم ناقد آخر بعد مرور ما يقرب من عشرين سنة على هذا الفرز، ورغم صدور عشرات الدواوين لشعراء هذا الجيل بفرز آخر يُعدّل أو يعترض أو يواصل الغربلة، وما فعله حجازي أثار عليه عدداً كبيراً من شعراء السبعينيات ومن شعراء قصيدة النثر، ومن نقادنا الأشاوس الذين لم يجرؤ أحدهم على الفرز خوفاً من المخاطرة وتحمل النتائج.

في سنوات «إبداع» الأولى كان رئيس تحريرها د. عبدالقادر القط ناقداً مشهوراً له بالنزاهة وأباً للجميع، وكان بوسعه أن يعتذر أحياناً عن نشر قصيدة أو قصة كما كان بوسعه أن يقنع أحدنا بحذف عبارة أو كلمة أو مقطع مُستفز، لكن حجازي شاعر كبير رغم «هلفطة» المتحاملين عليه بسبب بعض آرائه وصدقه مع ذاته، والشاعر يدرك أن المغامرة هي روح الإبداع، وكذلك التجريب والشطح أحياناً، من هنا قد يسمح الشاعر أو المبدع بنشر ما لا يسمح بنشره الناقد الذي يضع دائماً في حساباته ردود الفعل والمشاكل التي قد يثيرها نشر عمل إبداعي ما.

وقد أشرت من قبل إلى القاص الراحل محمد مستجاب وقصته «الجراجسة» التي قرأها د.عبدالقادر القط وأشاد بها، لكنه اقترح على مستجاب تغيير عنوانها وأسماء أبطالها قائلاً «لن يرضيك يا مستجاب أن تُتتهم «إبداع» بإشعال فتنة طائفية» فاستبدل القاص بجرجس وجرجيوس وجرجسه، جابر وجبرة وجبورة وبالجراجسة الجبارنة، وهو العنوان الذي نُشرت به القصة.

قبل أيام أصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً بإلغاء ترخيص مجلة «إبداع» وإغلاق مقرها لنشرها في عام 2007 قصيدة «شرفة ليلى مراد» للشاعر حلمي سالم التي اعتبرتها المحكمة مسيئة للذات الإلهية، وكانت الهيئة العامة للكتاب قد تحفظت على العدد الذي تضمن القصيدة فور صدوره قبل أن تعيد طرحه بعد حذف المقاطع التي أثارت الجدل، وخطورة هذا الحكم تكمن في ترسيخ قاعدة قانونية جديدة سيتشبث بها المتشددون وعشاق الظلام والصمت في المطالبة بإلغاء تراخيص الصحف والمجلات، وربما دور النشر لسبب أو لآخر، ومن ثم إصابة حياتنا الإبداعية والإعلامية بالشلل، والعودة بنا إلى حضيض العصور الوسطى.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top