نجمة كاتب ياسين... سطوع في سماء جديدة
صدرت حديثاً عن منشورات «الاختلاف» في الجزائر الترجمة العربية لرواية «نجمة» للجزائري كاتب ياسين، أنجزها السعيد بوطاجين، وذلك بعد نفاد الطبعة التي صدرت في بيروت عن إحدى دور النشر، وثمة من يعتبر أن العودة الى رواية ياسين هي بمثابة إعادة الاعتبار إليها، بعدما صادرها الواقع الايديولوجي.
لسنوات خلت كنا ننظر إليها كونها رواية «نضالية» عن الشعب الجزائري وحرب التحرير في الجزائر، خصوصاً أنها صدرت عن دار يسارية واهتم بها أصحاب الأقلام «الملتزمة». قلل هذا الأمر في ذاته من قيمة الرواية الأدبية لمصلحة «القيمة» الايديولوجية التي كانت طاغية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وما زالت ربما، ولكن لقارئ الرواية المتحرر من «الشبح» الايديولوجي، أن يلاحظ متانتها الرمزية ورصانتها بعيداً عن الشعارات، خصوصاً بطلتها «نجمة» التي جعلت الرواية مفتوحة لم تنته مع نهاية صفحاتها الأخيرة.الجزائريجمع النقاد الغربيون والعرب على أن رواية « نجمة» تعدّ من أعظم منجزات الأدب الجزائري الحديث. وتنبع أهميتها من أنها تجسيم بالحجم الطبيعي لرحلة العذاب، التي خاضها كل من كاتبها ووطنه. شكل ظهورها في منتصف الخمسينات صدمة للقارئ الفرنسي الذي لم ينتظر كتابة من هذا القبيل على يد جزائري في مقتبل العمر. ولد عام 1939 ولم يكن نشر إلا مجموعة شعرية واحدة لدى دار صغيرة وألقى محاضرة وهو في السابعة عشرة في باريس عن «الأمير عبدالقادر واستقلال الجزائر» عندما ثار ضد الواقع الاستعماري الذي أدخله السجن فجأة بعد حوادث 5 أيار (مايو) 1945، فأمضى فيه ثلاثة أيام كانت كافية لتقلب وعيه، فهجر الدراسة وانخرط في حياة جديدة غلب عليها الشقاء والرغبة في كتابة الشعر، إلى أن ولدت «نجمة» فأحدثت تحولاً في الكتابة الروائية العربية والفرنسية على حد سواء، وفتحت افقاً جديداً ومغايراً «للأدب الملتزم».تعتبر هذه الرواية قمة ما أنتجه ياسين، نظراً إلى القالب الفني المميز الذي صاغه فيها، اعتمد على الرمز وجعل الشخصيات تكشف عن نفسها الواحدة تلو الآخرى إلى أن وصل إلى الحقيقة. تحدث ياسين ذات يوم عن نجمة فقال: «بادئ ذي بدء وجدتني على احتكاك مع جمهرة من الشخصيات، وبدا لي أن لكل من هذه الشخصيات متطلباتها الخاصة. كانت كلها، بالنسبة اليّ، تمثل وجوه الجزائر المجهولة، لا جزائر الأخبار المتداولة، كانت تمثل وجه الأسطورة والحياة كما هي في عفويتها الأولى. إذ ذاك، راح وجه معين، شخصية معينة، تبرز شيئاً فشيئاً من بين الجمع. كما لو بفعل الصدفة كان هذا الوجه وجه امرأة، أو بالأحرى طيف امرأة. وعلى هذا النحو راحت شخصياتي واحدة بعد الأخرى، ورحت بدوري أقع تحت سحر نجمة وفتنتها(...) ونجمة ليست سوى روح الجزائر الممزقة منذ البدايات. الجزائر التي مزقتها الأهواء الفردية الفائضة عن حاجتها...». يبدو اسم «نجمة» واضحاً من الغلاف، لتكون في ما بعد بطلة من أبطال الرواية. هي فتاة في مقتبل العمر، ولكنها تتميز عن غيرها بجمالها الفائق، سلبت عقول الرجال، فراحوا يبحثون عنها في كل مكان، برز منهم أربعة جمعت بينهم القرابة: مراد، الخضر، رشيد، مصطفى. «كانت نجمة في طفولتها شديدة السمرة قريبة من السواد، وكانت متوترة الأعصاب، متينة البنيات، دقيقة الخصر، طويلة الساقين، تبدو في جريها كعربة كبيرة العجلات، عالية تتمايل يمنة ويسرة، من دون أن تحيد عن طريقها، كان لهذه الطفلة وجه رحب ولم تحتفظ بشرتها بالشحوب الذي ولدت فيه طويلا». العاشقةلفتت الانتباه في كل شيء، ولذلك عشقها الرجال، تزوجت مراد في سن السادسة عشرة، ومع هذا ظل الكثير من عشاقها يتنافسون عليها من دون هوادة، ويحاول كل واحد الظفر بها. يقول مصطفى: «جاء رشيد إلى عنابة بتأثير امرأة، كان يتظاهر بأنه لم يكن يعرف اسمها ولكنه لم يستطع أن يمتنع عن وصفها، مضفياً عليها في حديثه صفات تستحيل معها أن تعرف من هي على وجه الدقة، كان يتحدث عنها في لهجة صلبة، قلقلة، مضطربة»... ظلت نجمة في مخيلة رشيد، مع أنه كان يعلم أنها زوجة شرعية لكمال، الذي حاول أن يخطفها ويهرب بها إلى العاصمة، ولكن كشف أمره فنفي، فتزوجت من مراد، مع ذلك ظل التنافس قائماً من أجلها بين رشيد وذلك الزنجي، الذي عشقها وتيمه حبها، يقول رشيد: «لم أكن أستطيع أن أجهر بشيء من حبي أمام نجمة، فكنت اكتفي بقوله بصوت منخفض، أتمتم في سري بعض الكلمات القادرة على الإفصاح عن سر مثل تلك الخواطر. تمددت نجمة بجانبي والماء يسيل منها، وبدأ النعاس يدب إلى جسدها المرتخي، أما أنا فلم أكن أدري ما أفعل بانفعالي المتزايد واضطرابي، وأما الزنجي فإنه كان يبدو نائماً وقد زال عنه التأثر. وأنا الذي لم أكن أريد مساعدتها على البقاء وحيدة في انتظار أن أتبين معنى ذلك الصراع، شهدت إبعاد مراد، من دون أن أستطيع التكهن بهزيمة العشيقين الآخرين».انتظرت نجمة طويلاً فارس الأحلام، الذي تمنت أن يكون شريك حياتها للأبد، فكان هذا الشاب الزنجي الذي تبدو عليه الوقاحة وعدم المبالاة بمظهره ولكنه قوي البنية، جاء من أعالي الجبال لينقذ هذه المرأة التي أحبها، انتصر على كل منافسيه، ومد يده لإيقاظ هذه الحسناء النائمة، ولكن بعدما دفع الثمن غالياً.المجروحة«نجمة» كاتب ياسين، هي المرأة التي ترمز إلى الجزائر التي مزقتها آلام حرب التحرير، وستكون نجمة كذلك بطلة قصة رائعة تغني ثورة الجزائر، وتتحول إلى «المرأة المجروحة». أراد ياسين أن يخاطب أولئك الذين أضرموا النيران في جسد «نجمة»، استطاع بقوة وأصالة أن يحقق ذلك الهدف بكلمات معبرة، وصور موحية رائعة، فهذه «يد نجمة « أي يد الحياة تحاول أن تمحو آثار الموت من فوق الحياة : «ويد مفتوحة يد نجمة تمر على الحياة المشتعلة تمسح الدماء». يشرح ياسين في أحد الحوارات التي أجريت معه أن «الكاتب عندما يستعمل عنصر الذاكرة لا يستطيع أن يكتب رواية خطية، لأن الذكريات تسترجع مشوشة وغامضة». ولكن للنقاد وجهة نظر أخرى، فهم يربطون كل ذلك بأثر فولكنر وجويس على ياسين الذي عرف كيف يستلهم التقنية الفولكنرية في شكل بارع من دون أن يقلده في شيء، يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل في «نجمة» اجتماعاً حياً مشخصاً ماثلاً، لذلك قد تتشابه مع قصة «الصخب والعنف» لفوكنر. نبذة يمثل كاتب ياسين حالة خاصة في الثقافة الجزائرية، ولد في السادس من آب (أغسطس) عام 1939. وكان لأحداث القمع الدامية، التي شهدتها بلاده خلال التظاهرات في صيف عام 1954 وهو في السادسة عشرة، أثر بالغ في اثارة غضبه واشعال شرارة التمرد في كيانه. حين خرج من السجن، اكتشف نفسه شاعراً وقد منحه الشعر القدرة على مواجهة المأساة التي ظل يعاني من اثرها طوال حياته. يقول في هذا الصدد: «استحوذت هذه الصدمة الكبرى على معاني حياتي كلها، فالمأساة الجماعية تحولت الى مأساة خاصة وذاتية». لفتت مجموعته الشعرية الاولى «حوارات ذاتية» منذ صدورها قراء الفرنسية وبعض مثقفيها، وسرعان ما راج اسم الشاعر الشاب الرومانسي النزعة، الغنائي الصوت، المجروح واليائس والباحث عن هموم مختلفة.