شبح التضخم والركود

نشر في 16-06-2008
آخر تحديث 16-06-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تُـرى هل يؤدي التضخم العالمي المتصاعد إلى فترة من التباطؤ الاقتصادي العالمي الحاد؟ بل والسؤال الأخطر من ذلك هو هل يؤدي ذلك إلى حالة من التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي- تلك التركيبة الفتاكة المؤلفة من ارتفاع معدلات التضخم وتضاؤل معدلات النمو حتى تصبح سالبة؟

لقد ارتفعت معدلات التضخم بالفعل في العديد من البلدان ذات النُـظُم الاقتصادية المتقدمة والأسواق الناشئة، وهناك من الدلائل ما يشير إلى احتمال حدوث انكماش اقتصادي في العديد من البلدان المتقدمة اقتصادياً (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأسبانيا، وأيرلندا، وإيطاليا، والبرتغال، واليابان). أما في الأسواق الناشئة فقد كان التضخم- حتى الآن- مرتبطاً بالنمو، بل وحتى فرط النشاط الاقتصادي. بيد أن الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتقدمة اقتصادياً من شأنه أن يؤدي إلى إعادة اقتران النمو- بدلاً من انفصاله- في الأسواق الناشئة، مع تسبب الانكماش في الولايات المتحدة في إبطاء النمو، ومع اضطرار السلطات النقدية إلى إحكام السياسات النقدية والائتمانية بسبب ارتفاع معدلات التضخم. ثم قد تواجه الأسواق الناشئة بعد ذلك حالة من ارتفاع معدلات التضخم المرتبطة بتباطؤ حاد في النمو.

إن التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي يتطلب حدوث صدمة سلبية من جانب العرض تؤدي إلى زيادة الأسعار وتقليص الناتج في الوقت نفسه. أدت صدمات التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي إلى حالات كساد عالمية ثلاث مرات في غضون السنوات الخمس والثلاثين الماضية: أثناء الفترة من عام 1973 إلى عام 1975 حين سجلت أسعار النفط ارتفاعات حادة في أعقاب حرب أكتوبر وقرار الحظر الذي فرضته منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)؛ وأثناء الفترة من عام 1979 إلى عام 1980 في أعقاب الثورة الإيرانية؛ ثم أثناء الفترة من عام 1990 إلى عام 1991 في أعقاب الغزو العراقي للكويت. وحتى حالة الكساد التي شهدها عام 2001- التي كان السبب الأغلب في حدوثها انفجار فقاعة التكنولوجيا المتطورة- كانت مصحوبة بتضاعف أسعار النفط، بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد إسرائيل.

اليوم، قد تحدث صدمة التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي نتيجة لهجمة إسرائيلية ضد المنشآت النووية في إيران. والحقيقة أن هذا الخطر الجيوسياسي قد تصاعد أثناء الأسابيع الأخيرة نتيجة لانزعاج إسرائيل إزاء النوايا الإيرانية. ومثل هذه الهجمة من شأنها أن تؤدي إلى زيادات حادة في أسعار النفط التي قد تتجاوز مائتي دولار للبرميل. وقد يترتب على مثل هذا الارتفاع الحاد في أسعار النفط حدوث موجة كساد عالمية، كتلك التي شهدها العالم في الأعوام 1973، و1979، و1990. بل إن آخر الارتفاعات التي سجلتها أسعار النفط ترجع جزئياً إلى تفاقم المخاوف بشأن حدوث مثل تلك الهجمة.

ولكن هل من الممكن أن يحدث التضخم العالمي المصحوب بالتضخم، حتى في غياب مثل هذه الصدمات السلبية المرتبطة بالعرض؟ أثناء الفترة من عام 2004 إلى عام 2006 سجل النمو العالمي نشاطاً واضحاً بينما انخفضت معدلات التضخم، وذلك نتيجة لصدمة إيجابية مرتبطة بالعرض- والتي تمثلت في ارتفاع معدلات الإنتاجية وزيادة السعة الإنتاجية في الصين والهند والأسواق الناشئة.

في أعقاب صدمة العرض الإيجابية هذه- بداية من عام 2006- جاءت صدمة إيجابية مرتبطة بالطلب: حيث بدأ النمو السريع في الصين والهند وغيرهما من الأسواق الناشئة في فرض الضغوط على أسعار مجموعة متنوعة من السلع الأساسية. وكان النمو الاقتصادي القوى الذي شهده عام 2007 بمنزلة الإشارة إلى بداية ارتفاع معدلات التضخم العالمية، وهي الظاهرة التي استمرت حتى عام 2008 مع بعض الإنذارات والتحذيرات (التباطؤ الحاد في اقتصاد الولايات المتحدة وبعض البلدان المتقدمة).

إذا ما استبعدنا صدمات العرض السلبية فمن غير المرجح أن يحدث التضخم العالمي المصحوب بالركود. والارتفاعات التي سجلتها أسعار النفط والطاقة وبعض السلع الأساسية الأخرى مؤخراً تعكس مجموعة متنوعة من العوامل:

• إن النمو الضخم الذي سجله الطلب على النفط والسلع الأساسية الأخرى بين البلدان سريعة النمو ذات الأسواق الناشئة يحدث في وقت أدت فيه القيود المفروضة على السعة الإنتاجية فضلاً عن عدم الاستقرار السياسي في بعض البلدان المنتجة إلى تقييد الكم المعروض.

• تعمل حالة الضعف المتزايد التي يمر بها الدولار على دفع أسعار النفط بالدولار إلى الارتفاع مع انحدار القوة الشرائية للبلدان المصدرة للنفط في المناطق التي لا تتعامل بالدولار.

• أدى اكتشاف المستثمرين للسلع الأساسية باعتبارها من الأصول القوية إلى تغذية الطلب على الأمد البعيد، وخصوصاً الطلب المعتمد على المضاربة.

• كان تحويل الأراضي الزراعية إلى إنتاج الوقود الحيوي سبباً في تقليص مساحات الأراضي المتاحة لإنتاج السلع الزراعية.

• كما كانت السياسة النقدية المتراخية التي تبنتها الولايات المتحدة، وما أعقب ذلك من تراخي السياسات النقدية في البلدان التي تربط أسعار صرف عملاتها رسمياً بالدولار الأميركي (كما في الخليج)، أو البلدان التي عمدت إلى إبقاء أسعار صرف عملاتها أقل من قيمتها الحقيقية، سعياً إلى تيسير النمو القائم على التصدير (كما في الصين وغيرها من البلدان ذات العضوية غير الرسمية فيما يدعى بـ»منطقة بريتون وودز 2 للدولار») سبباً في تغذية فقاعة أصول جديدة في السلع الأساسية في تلك البلدان، فضلاً عن حالة فرط النشاط التي أصابت اقتصادها.

ترتبط أغلب هذه العوامل بصدمات عالمية إيجابية في إجمالي الطلب، وهو الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى حالة من النشاط الاقتصادي المفرط وارتفاع معدلات التضخم العالمي.

وتشكل سياسات سعر الصرف عاملاً أساسياً في هذا السياق. إذ إن الفوائض الضخمة في الحساب الجاري، و/أو ارتفاع شروط التجارة، يعني ضمناً انخفاض معادل سعر الصرف الحقيقي (سعر السلع الأجنبية نسبة إلى المحلية) في دول مثل الصين وروسيا. وعلى هذا فلابد مع الوقت من التقريب بين سعر الصرف الحقيقي- عن طريق رفع ثمن العملة إلى قيمتها الحقيقية- ومعادل السعر الأكثر قوة. وإذا لم يُـسمَح لسعر الصرف الاسمي بالارتفاع، فلن يحدث الارتفاع الحقيقي لقيمة العملة إلا من خلال زيادة نسبة التضخم المحلي.

وهذا يعني أن أهم طريقة للسيطرة على التضخم- وفي الوقت نفسه استرداد الاستقلال النقدي والائتماني المطلوب للسيطرة على التضخم- تتلخص في السماح لقيمة العملات في هذه البلدان بالارتفاع بصورة ملموسة. ولكن مما يدعو للأسف أن الحاجة إلى رفع قيمة العملة وإحكام السياسات النقدية في الأسواق الناشئة التي تتسم بفرط النشاط، تأتي في وقت أدى فيه انحدار أسواق الإسكان، وأزمة الائتمان، وارتفاع أسعار النفط إلى تباطؤ حاد في اقتصاد البلدان المتقدمة- بل والكساد الصريح في بعض تلك البلدان.

لقد أكمل العالم دورة كاملة. ففي أعقاب فترة حميدة من صدمات العرض العالمي الإيجابية، أدت صدمة الطلب العالمي الإيجابية إلى إصابة الاقتصاد العالمي بحالة من فرط النشاط وارتفاع الضغوط التضخمية. والآن تتلخص المخاوف في خضوع العرض لصدمة تضخمية سلبية- حرب مع إيران على سبيل المثال- مصحوبة بصدمة انكماشية يتعرض لها الطلب، مع انفجار فقاعة الإسكان. وقد تحدث الضغوط الانكماشية في البلدان ذات الاقتصاد المنكمش، بينما تزداد الضغوط التضخمية في البلدان التي ما زالت تشهد نمواً اقتصادياً سريعاً.

إن البنوك المركزية في العديد من البلدان المتقدمة اقتصادياً والبلدان ذات الأسواق الناشئة تواجه في الوقت الحالي احتمالات حدوث سيناريو مأساوي، حيث يصبح لزاماً عليها أن تعمل على إحكام سياساتها النقدية (لمكافحة التضخم)، وإرخاء هذه السياسات في الوقت نفسه (لتخفيف المخاطر السلبية التي يتعرض لها النمو). ومع اجتماع المخاطر المرتبطة بالتضخم والمخاطر المرتبطة بالنمو في الوقت نفسه، بأشكال متنوعة ومعقدة، وفي بلدان مختلفة، فلسوف يكون من الصعب للغاية بالنسبة للبنوك المركزية أن تحقق هاتين الغايتين المتناقضتين.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، أستاذ علوم الاقتصاد لدى كلية شتيرن للتجارة بجامعة نيويورك

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top