الجباية

نشر في 01-03-2009
آخر تحديث 01-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان قبل ما يقرب من قرنين أراد محمد علي بناء جيش قوي وتحديث مصر، لكنه اصطدم بضعف الموارد المالية. ولأنه كان عنيداً ومتشبثاً بحلمه، راح يفتش عن موارد مالية جديدة، واستعان بمفتشين ماليين «أبالسة» ضاعفوا الضرائب واخترعوا ضرائب جديدة وعجيبة كان أغربها ضريبة الرؤوس «الفِردة»، التي فرضت على المواطنين رجالاً ونساءً بغض النظر عن ظروفهم وأحوالهم المعيشية. وكلَّف عمداء القرى وشيوخها بتحصيل هذه الضريبة وتسليمها للجباة سنوياً. وكانت هذه الضريبة سبباً لفرار الناس من حقولهم ومنازلهم ولجلد شيوخ القرى ومصادرة ممتلكاتهم وفاء للضريبة المقدرة على القرية، كما كانت سبباً للقبض على القرويين العاجزين عن دفعها وترحيلهم للعمل في شق الطرق وحفر الترع وخدمة جيوش الباشا بموجب نظام السخرة.

ومن الحكايات الطريفة التي سجلها نوبار باشا في مذكراته تبدو قصة إبراهيم باشا ومفتش مالية والده، «أي وزير المالية»، هي الأكثر إدهاشاً؛ فقد سافرا معاً إلى إقليم البحيرة لمطالبة كباره وشيوخه بالضريبة المقدرة فقابلهم هؤلاء الكبار بالشكوى والبكاء والحديث عن بؤس الناس وسوء أحوالهم، الأمر الذي أحزن إبراهيم باشا وأغضبه ودفعه إلى مواجهة الشيوخ قائلاً: «أتعرفون سبب كل مصائبكم... إنه هذا الرجل»، وأشار إلى مفتش المالية ثم سحب مسدسه وأطلق عليه النار, ولم تلغَ هذه الضريبة العجيبة إلا عام 1854 في عهد سعيد باشا، أي بعد نصف قرن على اختراعها.

لكن هذا الإلغاء لم يقتلع أثرها وظلالها وسمعتها السيئة من الذاكرة الشعبية، فقد بقيت في أدبنا وفي أحاديث رجل الشارع المصري كلمات «السُخرة»، و«الجباية» و«الفِردة» و«الإتاوة» للدلالة على القهر والتعسف وإجبار الناس على الدفع للحكام والفتوات والبلطجية لاتقاء شرهم وإبعادهم وبقي أيضاً خوف الناس من الحكومة والشك الدائم في نواياها وتوقع السيئ والأسوأ.

وكان كبار القرى المصرية في أوائل الخمسينيات يعلنون أن الحكومة تكره الشعب وتحسده وترسل الموظفين والجواسيس لكي يَعُدوا الناس، والعَدّ نذير شر، وينصحوا الجميع بإخفاء بعض أطفالهم عن عيون الدولة وجواسيسها. وواجهت الدولة هذا الإخفاء بتكليف المنادين الرسميين بتكثيف نداءات التحذير والتهديد لإجبار الناس على إظهار أطفالهم وتسجيلهم وإرسالهم إلى المدارس، وبفضل هذه النداءات أُجبرت أسرتي على إظهاري وجَرِّي إلى الوحدة الصحية لكي يراني الطبيب ويقترح تاريخ ميلاد تقريبي لي!

الخوف من الجباية وإحياء ضريبة محمد علي العجيبة كانا سبب هذه الظاهرة التي انحسرت بعد سَنْ قانون البطاقة الشخصية قبل نصف قرن، ومن المثير أن يعود الناس في الفترة الأخيرة إلى الحديث عن الجباية و«الفِردة» وسعي الحكومة إلى تعظيم ومضاعفة مواردها من الرسوم والضرائب وغيرها بسبب الركود والانهيار الاقتصادي والمالي وتراجع عوائد السياحة والبترول والغاز وقناة السويس.

وقد قوبل هذا السعي بموجات الاعتصامات والاحتجاجات والإضراب من جانب الصيادلة الذين أغلقوا آلاف الصيدليات في القرى والمدن واستطاعوا إفشال خطط وزارة المالية التي ألغت فجأة من جانبها الالتزام بأسس وقواعد المحاسبة الضريبة المتفق عليها مع نقابة الصيادلة عام 2005، ووضعت قواعد جديدة تُطبَّق بأثر رجعي وتمنح مصلحة الضرائب الحق في التقدير العشوائي والعودة إلى نظام الجباية ومطاردة آلاف الصيادلة بتهم التهرب الضريبي والعجز عن تقديم المستندات الجديدة المطلوبة عن السنوات الأربع الماضية.

كما أدت مضاعفة رسوم التقاضي أمام المحاكم بواقع عشر مرات إلى غضب المحامين واحتجاجهم، وإضرابهم عن العمل، وامتناعهم عن حضور الجلسات في المحاكم، وهتاف بعضهم أمام مجلس الشعب «يا وزير العدل كفاية كفاية هي رسوم ولا جباية»، وتشكيل رابطة أطلقوا عليها «محامون ضد زيادة الرسوم القضائية»! علاوة على أن مضاعفة رسوم قضايا التعويضات بنحو عشرين مثلا أو أكثر سيحرم المواطن البسيط من حق التقاضي لعجزه عن دفع هذه الرسوم الفلكية الجديدة، وسيجعل هذا الحق مقصوراً على رجال الأعمال والأثرياء الجدد، وسيحرم المحامين في الوقت نفسه من حقهم في مساندة المواطنين البسطاء والفقراء والمغلوبين على أمرهم.

في إحدى قصائده يطرح صلاح عبد الصبور سؤالاً بسيطاً وكبيراً عندما يقول: «ماذا يهْب العريانُ إلى العريان؟»... ويبدو أن المسؤولين في مصر لا يدركون أن الركود المالي والاقتصادي قد لامس كل فئات المجتمع، وأن الأزمة تعصر الجميع، ومن ثم فإن اللجوء إلى نظام الجباية والحلول العشوائية سيضاعف الاحتقان والغليان والفوضى ويضيف ركوداً إلى الركود.

* كاتب وشاعر مصري

back to top