كلينت ايستوود... هاري القذر الذي لم يفلح كثيرون في تقليده!

نشر في 24-06-2008 | 00:00
آخر تحديث 24-06-2008 | 00:00

هوليوود - في استوديوهات «وارنر بروس»، أخذ كلينت ايستوود بعد ظهر أحد الأيام استراحة قصيرة بعد العمل طويلاً في غرفة التحرير، واتجه إلى صالة عرض هادئة، حيث كان بانتظاره ماضيه الخطر والمسلح، قطب هذا المخرج حاجبيه عندما نظر إليه وجهاً لوجه.

ثم سأل: «مَن هو هذا الشاب؟» ارتسمت ابتسامة على وجهه الصلب الغني عن التعريف، على إحدى الشاشات ظهرت صورة له التُقطت عام 1971 كان يحدق فيها إلى ماسورة مسدس ضخم وعلت وجهه برودة قاسية. كانت هذه بلا شك شخصية هاري كالاهان، شرطي من سان فرانسيسكو، أهدافه نبيلة لكن تصرفاته سيئة، أطلق النار في فيلم Dirty Harry. يُذكر أن هذا الفيلم أدخل موضوع الانتقام إلى السينما الأميركية الحديثة. تتابعت سلسلة أفلام «هاري القذر» حتى باتت تتألف من أربعة أجزاء امتدت على سبع عشرة سنة، تناولت قصة بدأت في عهد نيكسون واستمرت حتى أواخر عهد ريغان.

يُعتبر ايستوود، الذي بلغ الثامنة والسبعين من عمره أخيراً، صانع أفلام أميركياً من الطراز الأول. بدأ طريق الشهرة عبر شخصية شبيهة بجون واين وإنما فظة وعديمة المبادئ، لكنه نجح بطريقة ما في التحول إلى نسخة حديثة من جون فورد. مع مسيرة مهنية كهذه، لا عجب في أن يدير ظهره لكالاهان بجملته الشهيرة التي اعتاد التفوه بها بصوت خافت: «... عليك أن تطرح على نفسك سؤالاً: هل أشعر أنني محظوظ؟ حسناً، هل هذا ما تشعر به أيها الأخرق؟ هيا، أرني مهاراتك»، والتي فقدت كل معاني التهديد بعدما استهلكتها البرامج الفكاهية والخطابات السياسية وملصقات السيارات. طبعاً، من السهل تخيُّل ايستوود «المخرج» وهو يعامل هذه الشخصية بازدراء، على اعتبار أنها اختيار خاطئ قام به في السبعينات، لكنه يعيد اليوم ربط صورته بهذه الشخصية المعروفة. ستطلق شركة Warner Home Video قريباً مجموعة جديدة مغلفة بإتقان تحتوي على أفلام «هاري القذر» (تبلغ كلفة مجموعة أقراص الـDVD هذه 75 دولاراً، تحتوي على: Magnum Force عام 1973، The Enforce عام 1976، Sudden Impact عام 1983، Dead Pool The عام 1988). كذلك تتضمن شارة شرطي مزيفة وغلافاً من جلد الانقليس ورسالة يوجهها ايستوود إلى معجبيه.

انشغل أخيراً بوضع اللمسات الإخراجية الأخيرة على مشروعه Changeling وتقديمه في مهرجان «كان» السينمائي (سينزل إلى دور السينما في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل).

في غرفة العرض في استوديوهات «وارنر بروس»، أخبرني أن دور كالاهان كان «نقطة تحول حقيقية» بالنسبة إليه وإلى الثقافة الشعبية الأميركية، وهو يكن المشاعر للفيلم الأول من هذه السلسلة، أخرجه الراحل دون سيغل، أستاذه وصديقه، وأعاده إلى مسقط رأسه في سان فرانسيسكو. كذلك يدرك أنه في عقول محبي الفيلم سيحمل دوماً سلاح كالاهان، مسدس ماغنوم، بغض النظر عما إذا كان هذا الأمر جيداً أو سيئاً.

يقول ضاحكاً: «يخيب أمل الناس عندما يقتربون مني ويطلبون أن أريهم مسدسي وأجيبهم بأنني لا أحمل أسلحة في الواقع». كان ايستوود يرتدي حذاء رياضياً ويقف وقفة رجل مرتاح واثق من نفسه. صحيح أنه يعبس كثيراً في الأفلام، لكنه يبدو في الحقيقة شخصية أكثر صفاء وهدوءاً، مثل دوره في فيلمThe Bridges of Madison County. في هذا المجال يذكر: «من بين الأفلام كلها التي تخرجها والأدوار التي تجسدها، ثمة شخصيات وأفلام ترسخ في العقول. فغالباً ما يستوقفني الناس في الشارع ويسألونني عن دور هاري».

شعبية هاري

أتقن ايستوودفن التمثيل بفضل أفلام الغرب الأميركي الإيطالية التي صورها مع المخرج سيرجيو ليونه ودوره كشرطي ثائر في فيلم سيغل Coogan’s Bluff، لكن أمراً ما ميز دور «هاري القذر».

يقول أندي روبنسون، الذي أدى دور Scorpio Killer في «هاري القذر»، إن هذا الفيلم علق في الأذهان بسبب بطله القاسي وجاذبيته المفرطة. يضيف: «إنه فيلم بوليسي ورعب شبيه بأفلام الغرب الأميركي ورعاة البقر وهو خليط من تلك الأنواع كلها. نظراً إلى الفترة التي أُطلق فيها، تناقلت أخباره كل شفة ولسان، هل هو فاشي؟ هل تكثر فيه السخرية؟ بعده، لم استطع الحصول على دور في فيلم آخر طوال فترة من الزمن إذ شعر كثيرون في هوليوود بالغضب».

أثنت بولين كيل من مجلة «نيويوركر» على الفيلم واعتبرته «متقن الصنع، عنيفاً، ومثيراً للاهتمام»، لكنه هجوم عنيد على القيم الليبرالية أيضاً، لا يغفل عن أية أحكام مسبقة ويحتوي تفاصيل مثيرة للجدل كثيرة. أما الناقد روجر ابيرت فكتب: «موقف الفيلم الأخلاقي فاشي بامتياز. لا شك في ذلك».

لكن الفيلم لقي قبولاً أفضل بين الناس، حصدت شركة «وارنر بروس» نحو 228 مليون دولار من عرضه في دور السينما الأميركية، ما يعني أنه حقق نجاحاً باهراً على شباك التذاكر آنذاك. كذلك أصبح رائجاً على شاشات التلفزيون وفي متاجر بيع الأفلام. يوضح روبنسون: «كان يجب أن يجمد هذا الدور كلينت في قالب معين، لكن هذا الممثل أكبر من هاري القذر، ما يحمل دلالات كثيرة».

حتى اليوم، ما زال شبان ومسنون كثر يقتربون منه ويرددون حوارات كاملة من سلسلة الأفلام تلك. الأغرب أنهم يضحكون ويطلبون منه أن يطلق عليهم شتى النعوت ويهددهم. يخبر ايستوود: «في البداية، كنت أقول لهم إنه مجرد فيلم، لكن بعد فترة صرت ألبّي طلبهم، أسعدهم ذلك كثيراً. شعرت بالفرح أحياناً، عنيت كل كلمة قلتها لهم...».

عاشت هوليوود مرحلة ثائرة في الستينات، في فلمي Easy Rider وBonnie and Clyde، كان الأشرار شباناً متهورين مستعدين لكسر قوانين أمة منافقة. فتح نجاح هذه الأفلام الباب أمام روح استقلالية فوضوية تحولت سياسياً إلى اليسار، لذلك اعتبر مراقبون كثر أن «هاري القذر» كان رفضاً لهذه الحالة (كان يمكن أن يكون الوضع أسوأ، اختار كاتبو النص هاري جوليان فينك وأرام فينك ودين رايسنر عبارة Dead Right عنواناً أولياً له).

عمل سيغل في هوليوود منذ الثلاثينات (شارك في إعداد فيلم Casablanca)، وبحلول الستينات، وجد نفسه في أفلام الأبطال الأقوياء مع لي مارفن في فيلم The Killers وستيف ماكوين في Hell Is for Heroes وايستوود في Coogan’s Bluff، واختار أن يعرض في بداية «هاري القذر» مشهداً يعرب فيه عن احترامه للشرطة، فصوّر نصباً رخامياً يعدد أفراد شرطة سان فرانسيسكو الذين قُتلوا على أرض المعركة. في النهاية، لا يبجل هذا الفيلم أي رجل فاتن خارج على القانون.

يوضح ايستوود: «في تلك الفترة كانت الصحف تصب اهتمامها على حقوق المتهمين. طبعاً، هذا ليس سيئاً أو خطأً، لكنَّ أحداً لم يفكر في الحق العام أو تركيز الإهتمام بحقوق الضحية، فجأة ظهر فيلم يتحدث عن هذه الحقوق. أعتقد أنه أصاب وتراً حساساً لدى الناس الذين شعروا بالاستياء».

يُعتبر جمهورياً منذ الخمسينات، لكنه يصف نفسه بأنه مؤيد لمبدأ الحرية الفردية. عيَّنه الرئيس نيكسون عضواً في أحد مجالس الفنون في السبعينات، انتُخب عمدة بلدة كارمل الجميلة في شمال كاليفورنيا في الثمانينات، كذلك عينه الحاكم أرنولد شوارزنيغر في لجنة منتزه كاليفورنيا (ثم طُرد منها). إلا أنه يؤكد أن هذه الأمور كلها لا دخل لها بكالاهان، يقول عن هذا الدور: «دارت جدالات سياسية كثيرة حول الفيلم وحول مواقفي السياسية، الحقيقي منها أو المختلق. ظن أناس كثر أنني فار من العدالة واستنتجوا ذلك كله من الفيلم. لربما احتوى مواقف سياسية، لكنهم قرأوا فيه مواقف لم تكن موجودة أيضاً. إنه مجرد دور، تلك هي متعة التمثيل التي تتيح لك لبس شخصية لا تعكس حقيقتك».

صديق الحيوانات

يطلب منه الناس التوقيع على بنادقهم، لكن ايستوود ليس تشارلتون هيستون. بما أنه نباتي، انزعج عندما سمع هيلاري رودهام كلينتون تتفاخر حديثاً بإطلاقها النار على طائر. عن هذه المسالة يذكر: «رحت أفكر: يا لها من بطة مسكينة! ما الذنب الذي ارتكبته لتستحق هذه النهاية؟ أكره الصيد، لا أحب قتل الحيوانات ما لم تكن تحاول قتلي. في هذه الحالة فحسب يكون قتلها مبرراً».

يؤكد أنه يكن احتراماً عميقاً لقواعد الإجراءات القانونية وحقوق ميراندا، يضيف أن ثمة فائدة من تغذية أحلام رجال الشرطة الذين يشعرون بالإحباط، أنقذه هذا الدور، على حد تعبيره، من مخالفات سير كثيرة على مر السنين.

لا يشير لقب المحقق هاري كالاهان إلى الفساد، بل إلى استعداده في أوقات الشدة لتلطيخ يديه ببحث غير مشروع أو قليل من التعذيب مثلاً، لكن هذا الدور لم يعد غريباً الآن، خصوصاً مع مسلسلات وأفلام مثل The Shield، NYPD Blue ،Training Day، وL.A. Confidential وألعاب فيديو يبدو فيها كالاهان، بربطة عنقه وسترته، أكثر رجال الشرطة نزاهة.

جعل «هاري القذر» من أفلام الانتقام الأميركية نوعاً قائماً بحد ذاته. بعد هذا الفيلم، عُرض على ايستوود التمثيل في Death Wish، وبما أنه كان سيُضطر فيه إلى أداء دور مهندس لطيف يلجأ إلى العنف بسبب الكره والحزن، رفضه قائلاً إن شخصيته على الشاشة انطبعت بطابع المحارب المجروح. اقترح لهذا الدور الممثل غريغوري بيك الذي توحي شخصيته بأنه رجل مثقف وهادئ، غير أن الدور ذهب في النهاية إلى تشارلز برونسون بمظهره الغاضب. يقول ايستوود: «لا تعتمد مهنة التمثيل أحياناً على القيام بما يبدو لك منطقياً».

ما زال هذا النوع من الأفلام رائجاً حتى الآن. ثمة مجموعة كبيرة تقلد النمط المتبع في «هاري القذر»، لكن ثمة أفلام أخرى تطمح إلى تقديم أداء أفضل. في الآونة الأخيرة، صدر فيلم نيل جوردن The Brave One من بطولة جودي فوستر التي تواجه الأشرار وتحاول القضاء عليهم. من المفترض أن يشارك نيكولاس كايج العام المقبل في نسخة جديدة من فيلم Bad Lieutenant لوارنر هرزغ، وسيؤدي دور شرطي شبيه بهاري القذر، لكنه أكثر تطرفاً.

حاول كثر تقليد دور هاري القذر على سبيل الفكاهة، من بين هؤلاء يفضل ايستوود جيم كاري، الذي مثل في فيلم The Dead Pool أيضاً. غير أنك تشعر بفرحة كبيرة عندما تسمع ايستوود نفسه يتلو العبارات الشهيرة في هذا الفيلم. ما زال يذكر كل كلمة منها، مع أنه يؤكد أن آخر مرة شاهد فيها هذا الفيلم كانت قبل عقد على قرص ليزر.

الممتع أيضاً سماعه يسخر من إنتاج جزء خامس من هاري القذر. يقول: «يتقاعد هاري. يذهب إلى الصيد على أحد الأنهر. يقف وسط الماء ويرمي الصنارة. عندما يشعر بالتعب، تبدأ الأحداث المثيرة. أو ما رأيك في أن يتقاعد هاري ويلاحق الأشرار بعكازه؟ أو ربما يشتري حانة وعندما يأتي الأشرار ليدفعوا الفاتورة يُطلق عليهم النار...».

لكنَّ أفلاماً مثل Rambo وRocky وIndiana Jones عادت إلى دور السينما. عن هذه المسألة يقول: «نعم، غالباً ما يطرح علي الناس هذا السؤال. أعتقد أنني لو وجدت نصاً جيداً لمثلت جزءاً إضافياً. لكن من الصعب العثور عليه، فكم بالأحرى نص عليك أن تبذل جهداً كبيراً كي تقبل به شركة ما. تنقلني الأفلام التي تثير اهتمامي الآن إلى أماكن جديدة ومختلفة».

back to top