الدين الحق لا ينكر هذه الحقيقة... العائدة!

نشر في 10-07-2008
آخر تحديث 10-07-2008 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري مازلتُ اعتقد أن القومية لم تنقرض إلا في أوهامنا، نحن العرب. في فترة سابقة أعطينا الحقيقة القومية أكثر مما تستحق على حساب الحقيقة الدينية التي لا يمكن إنكارها أيضاً في حياة البشر. واليوم تتضخم الظاهرة الدينية في الحياة العربية إلى درجة تشل التفكير وتحجب الرؤية الصحيحة للأشياء، حيث وقع الاختلال الشديد في الحالتين... أمس واليوم.

وهذه الرؤية الصحيحة تقتضي الإقرار بأن ثمة حقيقة دينية وحقيقة قومية، ولكل منهما مجاله المشروع، وليس من مصلحة أي منهما أن تتعلق بضخم على حساب الأخرى، فالإسلام دين الاعتدال والتوازن، وفي القرآن الكريم من الشواهد الدامغة ما يؤكد الحقيقة القومية. وقد عرض كاتب هذه السطور لذلك في أكثر من موضع في كتاباته.

وبداية، فمن الخطأ الحديث عن «عقيدة» قومية. فالقومية ظاهرة وحقيقة منغرسة في واقع التاريخ والشعوب والأمم إلى يومنا. ومَن أراد تجاوزها فلابد أولاً أن يعبر من خلالها، كما يفعل الأوربيون في عصرنا، لكنها ليست بعقيدة. وطرحها كعقيدة يحمل خطر تحولها إلى نوع من النازية أو الفاشية، وهذا أمر ثبت فشله، لكنها تتحول إلى ذلك مع المكابرة في إنكارها. غير أن أمم العالم قاطبة متمسكة بقومياتها كظاهرة طبيعية، وعائلة اجتماعية كبيرة وجامعة توفق بين عناصرها وفئاتها وطبقاتها، وتدفعها إلى التماسك من أجل العمل والإنتاج والارتقاء. ومَن ينظر إلى خارطة العالم في عصرنا بألوانها السياسية يجد أن القوميات الإنسانية المتمايزة هي التي أعطت هذه الألوان السياسية وهجها وبريقها، بل معناها ووجودها، والعالم الإسلامي ليس استثناءً لهذه الظاهرة. فهو مقسم سياسياً حسب قومياته. ومن ينتظر انصهار هذه الكيانات التي تناهز الثلاثين في دولة دينية واحدة، فسينتظر طويلاً جداً من دون نتيجة، ولن يبصر هذا الحلم حتى أحفاد أحفاده، وإن كان يمكن للدول الإسلامية أن تنتظم في عصبة للأمم الإسلامية كما اقترح القانوني الكبير عبدالرزاق السنهوري رحمه الله، وذلك ما يقرب من فكرة منظمة العالم الإسلامي مع تطويرها وتفعيلها.

لسان العرب

وفي ذروة التاريخ الإسلامي كان ثمة خلافات ثلاث إضافة إلى الكيانات الصغيرة المتناثرة الأخرى لم ينحسم أمر «تكفير» واحدة منها؛ كانت هناك الخلافة الأموية في الأندلس، والخلافة الفاطمية في مصر، والخلافة العباسية في العراق... وكان بعضها يمد يده، في صراعات السياسة المجردة، إلى البيزنطيين أو الإسبان أو اللاتين... ولم ينجح بقاء خلافة إسلامية واحدة في دار الإسلام. هذا هو واقع التاريخ ودروسه وعبرته، والمستغرب اليوم أنه لا يقال إلا للعربي فقط قرر إن كنت عربياً أم مسلماً!

أما التركي والفارسي والهندي فله الحق -وذلك من حقه- أن يكون تركياً أو فارسياً أو هندياً ومسلماً في الوقت ذاته بنقاوة ضمير... فلا تشوش إلا لدى العربي وحده.

فسبحان الله... لماذا العربي بالذات؟! والنبي عربي وأهل بيته وصحابته من خيرة العرب، والقرآن الكريم أكد عربيته في أكثر من موضع، حتى قال بعض الفقهاء إن «عربيته جزء ماهيته». فالقرآن الكريم لا يترجم حرفياً إلى أي لغة أخرى، ومعانيه هي التي تترجم فحسب. ومَن أراد التصدي للفتوى في الإسلام من أي ملة فعليه أن يحسن العربية قبل كل شيء. وهذا ما وقع فيه المرحوم أبو الأعلى المودودي عندما أفتى بالحاكمية في الإسلام مترجماً المصطلح الأجنبي الحديث Sovereignty -كما أوضح د. محمد عمارة- بينما جذر الحاكمية في القرآن الكريم واللغة العربية الأصلية مستمد من «حكم» بما يعني في الأساس حكمة وبصيرة، ولم ترد هذه المفردة القرآنية إطلاقاً بمعنى السلطة السياسية.

ومن المأثور في التراث الإسلامي هذا الحديث النبوي الشريف: «ليست العربية بأمٍ أو أب لأحدكم، إنما العربية اللسان»... وسواء ثبتت نسبة هذا الحديث إلى النبي الكريم أو كانت مقولة في التراث، فإن هذه الحقيقة اللغوية اللسانية مغروسة في وجدان الأمة ونسبتها إلى النبي دليل على الرغبة في توكيدها. فالقومية، خصوصاً العربية، ليست «عرقاً» إنما هي لسان ولغة وثقافة. وسيد البيان العربي، أبو عمرو الجاحظ إفريقي من قلب إفريقيا، لكنه بموهبته الأسلوبية في العربية أصبح من أعلام العرب في الأدب. فالقومية العربية المستندة إلى اللسان العربي قومية إنسانية قابلة للتفاعل مع الثقافات والأقوام المختلفة، وهكذا تصرف العرب في قيادة الإسلام وحضارته. وفي تاريخ الحضارة الإسلامية حددت اللغات ثقافات الأقوام المسلمة كالتركية والأردية والفارسية -خصوصاً- التي نشأت في ظل العربية بسلام.

ومن أوضح ما قرأت أخيراً للمرجع الديني الكبير العلامة السيد محمد حسين فضل الله، قول سماحته عن العروبة: «أنا اعتقد أن العروبة لا تمثل انحرافاً عن الخط الإسلامي... لأن العروبة حالة إنسانية، وكنت أقول إن العروبة هي عبارة عن الإطار الذي يبحث عن الصورة... والإسلام هو الصورة لذلك الإطار، وإنما انطلقت العقدة من العروبة عندما تحركت بطريقة غير إنسانية... وهو ما سمي بحركة الشعوبية التي قامت كرد فعل على التعصب للعرب. وفي الأربعينيات صرنا نسمع كمحاكاة للنازية إن العرب فوق الجميع... بعد ذلك تأدلجت العروبة، حيث دخلت فيها الاشتراكية والماركسية، ما جعل المعارضة «لهما» وليس للعروبة». وهو نص طويل ومهم، ويمكن الرجوع إليه في مصدره (العربية نت- الهامي الملجي/بيروت).

الحنين القومي

وإذْ تحدد القوميات المتمايزة خريطة العالم وتصوغها بألوانها السياسية -كما أشرنا- فإن القوميات التي أجبرتها الظروف الإقليمية أو الدولية على الانقسام سرعان ما تعود إلى وحدتها القومية عندما تسنح اللحظة التاريخية المناسبة.

ونذكر كيف عرّض الألمان الشرقيون أرواحهم لخطر الموت عندما كانوا يحاولون القفز على «سور برلين» قبل إزاحته في نوفمبر 1989، من أجل أن يقضوا بقية عمرهم في ألمانيا الغربية... وكيف قدّمت ألمانيا الغربية مئات المليارات من اقتصادها وخبز شعبها لتوحد هذا الشعب، وتتيح لألمانيا الشرقية، بعد عقود طويلة، العودة إلى البيت الألماني الكبير الذي مازال يقدم التضحيات الكبيرة من أجل إعادة وحدته القومية وإعادة برلين من جديد عاصمة لألمانيا الموحدة.

أما آخر مظاهر سعي الأمم لإعادة وحدتها القومية وآخر تجلٍ للظاهرة القومية فيتمثل في التطور الدبلوماسي السلمي المهم الذي طرأ -لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن- على العلاقات بين الصين الشعبية والصين الوطنية.

فقد عادت «هونغ كونغ» قبل سنوات بنجاحها الاقتصادي الهائل إلى الوطن الأمم «الصين الشعبية» في البر الصيني الكبير.

واليوم يحن الصينيون في «فرموزا» (الجزيرة الرئيسية التي تقع فيها تايوان) إلى التواصل مع وطنهم الأم أيضاً رغم نجاحهم الهائل في التنمية الاقتصادية، وعلينا أن ننتظر لنرى نتيجة هذا التواصل والتوافق في المدى النهائي.

لقد نظرت الثقافة السياسية السائدة في عالمنا إلى حركة الزعيم الصيني «ماو تسي تونغ» على أنها حركة شيوعية، وتم إغفال أنها حركة قومية في الأساس نجحت في إعادة توحيد الصين، في البر الصيني بالدرجة الأولى، وكانت الأيديولوجية الماركسية المعلنة للحركة وسيلة تكتيكية لمجابهة الغرب واليابان وكسب الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي إلى جانبها في البداية. وإذا تابعنا هذه الظاهرة فسنرى أن بكين عندما رسّخت وحدتها جابهت موسكو و«الإمبريالية السوفييتية التحريفية» حسب الخطاب الصيني مثلما جابهت «الإمبريالية الأميركيـة» أو ربما أشـد. ولكن وحدة الصين بقيت من «ثوابت» الحزب الصيني الحاكم، وفي يومنا تتجه الصين إلى اقتصاد السوق -وهذا ما يقرب بين النظامين في البر الصيني وفي فرموزا- وتبقى وحدة الصين هي الغاية وهي الهدف الثابت، في الأحوال كلها.

ولا نستبعد أن تتوصل الحكمة الصينية العريقة إلى صيغة توحيد بين البر الكبير والجزيرة المتقدمة بصورة قد تدهش آسيا والعالم، مع تقارب النظامين الاقتصاديين في الدولتين، وسعيهما إلى تعظيم التبادل التجاري بينهما كما شهدنا بوصول أول طائرة صينية من الصين الشعبية إلى فرموزا، وهي تحمل مئات السائحين في تطور «تاريخي»، حيث شعر الصينيون على جانبي المضيق أنهم بالفعل «أسرة واحدة».

كما أن ما يحدث في كوريا الشمالية التي تخلت عن برنامجها النووي العسكري، وخرجت من حالة الحصار ستكون له آثار إيجابية على توحيد شطري كوريا بعد أن فرّقها الصراع الأيديولوجي الدولي والحرب الباردة بين رأسمالية وشيوعية. ولا نستبعد أن تقدم كوريا الجنوبية لإعادة الوحدة مع شطرها الشمالي ما يشبه المساعدات والتضحيات التي قدمتها ألمانيا الغربية لتوأمها الشرقي.

فهل تنكر هذه الحقائق والوقائع والمستجدات كلها استرضاءً لبعض الصارخين في الميكروفونات بلا هدى ولا كتاب منير؟

هكذا... فالحقيقة القومية تواصل إظهار تجلياتها في عالمنا المعاصر، ولن يصح في النهاية إلا الصحيح.

* مفكر من البحرين

back to top