الطغيان

نشر في 16-02-2009
آخر تحديث 16-02-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي يعيب بعض المتغربين على الفكر الإسلامي أنه لم يعرف مفهوم الحرية بالمعنى الحديث، حرية الإنسان كما قررته الثورة الفرنسية ومواثيق حقوق الإنسان والدساتير الحديثة، بل عرف الحرية في مقابل الرق «تحرير رقبة» والحر في مقابل العبد «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ». وقضية الحرية تتجاوز اللفظ إلى المضمون. فكثير من الثقافات عرفت اللفظ دون المضمون.

وقد عالج القرآن الكريم قضية الحرية بطريقة غير مباشرة عن طريق تحرير الإنسان من الطغيان، فالحرية يتم تناولها سلبا من أجل القضاء على موانعها ومحدداتها ونقائضها في الطغيان والاستبداد والقهر والعبودية.

وقد ورد لفظ «الطغيان» في القرآن تسعا وثلاثين مرة أي أنه موضوع رئيسي. نموذجه فرعون «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى»، ونظامه «وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ». وقد يتبناه أي نظام اجتماعي لقوم طاغين «أتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ»، فالطاغية لا يسمع نصيحة، والطغيان مجرد حلم لا يتحقق «أمْ تَأمُرُهُمْ أحْلامُهُمْ بِهَذَا أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ». وهو اختيار حر من الناس وليس إملاء عليهم من أحد، من قدر أو تاريخ أو ضرورة اجتماعية «وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ». وليس إغواء من قرين أو صديق «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ». ومن ثم تتهاوى حجج الطغاة بأنهم كانوا مضطرين للطغيان لظروف سياسية واجتماعية وتاريخية، وقد يطغى الإنسان من نفسه بناء على مسؤوليته الخاصة «كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى». إذا ما شعر أنه ليس بحاجة لأحد، وأنه قادر على كل شيء.

والاستقامة نقيض الطغيان، فالطغيان انحراف عن الطريق القويم «فَاسْتَقِمْ كَمَا أمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا». فالطغيان يجلب غضب الله «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي»، يل إن الكون كله يقوم على العدل والميزان «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ألا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ»، والعدل البشري جزء من العدل الكوني، والعدل الكوني جزء من العدل الإلهي.

الطغيان يخيف لأن الإنسان يأباه بطبعه وينفر منه «قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أوْ أنْ يَطْغَى»، وإذا ما خاف الإنسان فإنه قد يزداد طغيانا ليعطي لنفسه الأمان الزائف «وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلا طُغْيَانًا كَبِيراً».

والطغيان يعادل الكفر بالله، فالطاغية كافر بالله «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْراً»، والكفر والطغيان إرهاق للإنسان لا يستطيع أن يتحملهما «فَخَشِينَا أنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْراً». الله والطاغوت نقيضان، ولا يمكن الإيمان بهما في نفس الوقت، والإيمان بالله يتطلب الكفر بالطاغوت، والإيمان بالطاغوت كفر بالله «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى»، والكفر بالله ولاية للطاغوت «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ»، ولا يمكن لمن يؤمن بالكتاب أن يؤمن بالطاغوت في نفس الوقت «ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ»، ولا يمكن أن يكون الطاغوت حكما بين الناس وليس الشريعة الإلهية «يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ». ومن يقاتل في سبيل الله غير الذي يقاتل في سبيل الطاغوت «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ»، فالعبادة لله وحده وليس للطاغوت «أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

ويثبت التاريخ أن الطغيان لا يدوم مثل قوم نوح «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أظْلَمَ وَأطْغَى»، وهلكت ثمود لأنها كانت طاغية «فَأمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ». فالطغيان عاقبة الخسران في الدنيا وفي الآخرة «فَأمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأوَى»، وللطاغين شر عاقبة «هَذَا وَإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ»، فلهم جهنم وبئس النار «إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً، لِلطَّاغِينَ مَآبًا»، وحينئذ لا ينفع الندم «قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ».

والله لن يمنع أحدا من طغيانه لأنها مسؤولية شخصية يحاسب عليها يوم القيامة «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»، فاليقظة من الداخل، ومن لا يستطع أن يدرك خطورة الطغيان وآثاره الوخيمة فلن يستطيع أحد أن ينقذه منه «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»، ولو ساعده الله ورحمه فإنه قد يظل في طغيانه «وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

محاربة الطغيان إذن هي محاربة للكفر، فالكفر ليس مقولة باللسان حول وحدانية الله بل هو إشراك إرادة أخرى مع إرادة الله، إرادة الطاغية، وحكم آخر غير حكم الله، شريعة الطاغية، ونظام آخر غير نظام الله، نظام الطاغية.

والإيمان بالطاغية شرك لأنه يشارك الله في خلقه وإرادته، ومن ثم كانت محاربة الطغيان في النفس وفي المجتمع وفي الكون بداية التحرر بالقضاء على موانعه ومحدداته، فالحرية تمارس سلبا قبل أن تمارس إيجاباً، وذلك بالقضاء على كل مظاهر القهر والطغيان.

* كاتب ومفكر مصري

back to top