قراءة في الرسالة والاستجابة

نشر في 10-02-2009
آخر تحديث 10-02-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله كانت الاستجابة سريعة وحاسمة ومفرحة، فقد جاءت التوجيهات بالتريث وعدم السير في مشروع قانون الأنشطة الإعلامية، وأكدت القيادة السياسية في الإمارات عبر هذه الاستجابة، أنها تتحلى بالتسامح ورحابة الصدر، وأنها تتفهم مطلب رفع سقف الحريات، وتؤيد طلب رفع الوصاية الإدارية والبيروقراطية القاتلة عن العمل الصحافي والفكري والأكاديمي.

في خطوة مهمة ومشبَّعة بالدلالات الوطنية والشعبية وربما كانت الأولى من نوعها، وجه عدد من أبناء وبنات الإمارات المعنيين بالشأن الثقافي والإعلامي برسالة مفعمة بالمحبة والمسؤولية إلى رئيس الدولة تناشده التدخل السريع من أجل وقف السير في مشروع «قانون الأنشطة الإعلامية» الذي أُقر على عجل من قبل المجلس الوطني الاتحادي أخيراً. مثل هذه المبادرات الجماعية التي تحمل مطالب شعبية نادرة في الإمارات، والاستثناء الوحيد لذلك مذكرة عام 1979 التي رفعها المجلس الوطني الاتحادي برئاسة المرحوم تريم عمران، إلى رئيس الدولة وأعضاء المجلس الأعلى، طالبت بإدخال إصلاحات دستورية واسعة لتقوية مؤسسات الدولة الاتحادية.

لكن ما يميز الرسالة الأخيرة التي رفعت إلى رئيس الدولة الأسبوع الماضي، هو أنها الأولى التي تحمل أسماء محددة من المواطنين، وتركز على قضية واحدة هي وقف السير في مشروع قانون اتحادي خلافي، وتطلب طلبا واحدا هو رفع سقف الحريات، خصوصاً حرية الصحافة والرأي والتعبير التي أصبحت الشغل الشاغل للمعنيين بالكتابة في الإمارات.

كانت الرسالة خطوة شعبية مهمة، لكن ما هو أهم من الرسالة تلك الاستجابة السريعة من القيادة السياسية التي وجهت فورا وسريعا بوقف السير في مشروع القانون والتريث في إصداره والعمل على مراجعة مواده. كما صدرت توجيهات بتشكيل لجنة مختصة لدراسة مشروع قانون الأنشطة الإعلامية دراسة مـتأنية والأخذ بملاحظات أهل الرأي والدراية من أبناء وبنات الإمارات، ليأتي القانون في صيغته المعدلة معبرا بصدق عن تطلعات شعب الإمارات في مجال الحريات والعمل الصحافي.

وقع على الرسالة أكثر من مئة كاتب وصحافي وأكاديمي ومتابع للشأن الثقافي والإعلامي في الإمارات، وتصدر قائمة الموقعين 20 أستاذا من جامعة الإمارات، و24 من أعضاء جمعيات النفع العام ورؤساء مؤسسات المجتمع المدني في الدولة، بجانب عدد من أصحاب المدونات من الشباب، علاوة على مجموعة من الأدباء والفنانين والمحامين وعضو سابق من أعضاء المجلس الوطني. وكان لافتا للانتباه تصدر الأسماء النسائية قائمة الموقعين على الرسالة وحضورهن الكثيف عن جدارة. عبر هؤلاء جميعا لرئيس الدولة بصدق وصراحة عن «بالغ قلقهم وعميق انزعاجهم تجاه مشروع «قانون الأنشطة الإعلامية» الذي تمت الموافقة عليه في المجلس الوطني الاتحادي أخيراً. حيث إن هذا القانون لا يُلبي طموحاتهم الساعية إلى رفع مستوى الحريات، وعلى الأخص حُرية الرأي والتعبير والصحافة في الإمارات. فالقانون بشكله الراهن يحتوي على الكثير من الغموض، ويمس العديد من الحريات والمكتسبات والحقوق الأصيلة ويعيق العمل الإعلامي الحر في الدولة.

تأتي هذه الرسالة الحريصة بعد أن أخفق المجلس الوطني الاتحادي في مناقشة تفاصيل مشروع القانون والسير في إقراره على عجل رغم غموض مواده. وأخذ أعضاء المجلس برأي الحكومة ووافق على إعطاء مجلس الإعلام في الدولة صلاحيات رقابية وتنفيذية وقضائية واسعة تصل حد الوصاية شبه الكاملة على العمل الصحافي والإعلامي في الدولة، مما يتعارض مع مواد الدستور والبرنامج الإصلاحي لرئيس الدولة ويهدد مكتسبات شعبية مهمة في مجال الإعلام تراكمت على مدى الـ37 سنة الماضية.

كان موقف السادة أعضاء المجلس الوطني الاتحادي مدهشا ومحبطا ومخيبا للآمال. لا يمكن لأي مجلس وطني أن يكون حكومياً أكثر من الحكومة، وأن يتجاهل الملاحظات الناقدة المقدمة من قبل المواطنين العاملين في الميدان الصحافي والمعنيين مباشرة بهذا القانون. من هنا جاءت فكرة الرسالة التي تجسد تجسيدا حقيقا عن الاستياء الشعبي المتنامي من سلبية معظم أعضاء المجلس الوطني، خصوصاً المنتخبين منهم الذين قدموا وعوداً انتخابية إصلاحية سرعان ما تخلوا عنها.

فالرسالة تذكِّر الأعضاء جميعا أنهم في مجلس وطني يختلف دوره عن دور الحكومة، فقد أقسم جميع الأعضاء القسم الغليظ على تمثيل شعب الإمارت، والتعبير عن تطلعاته خصوصا في مجال الحريات، وتبني مواقف ومطالب شرائحه المختلفة. لقد أخفق المجلس الوطني في أداء هذه المهمة الوطنية والتشريعية وتحول أخيرا إلى مؤسسة تصادق على القوانين بأقل قدر من النقاش الحريص، وبأقل قدر من الفهم العميق للأبعاد المجتمعية للكثير من التشريعات.

بعد أن خذلهم القانون، وتخلى عنهم ممثلو الشعب، وأصبح المجلس الوطني «حكوميا أكثر من الحكومة»، كان لابد من الذهاب مباشرة إلى الحكومة، وطرق باب أصحاب القرار والتواصل الخطي المباشر مع رئيس الدولة من أجل إنصاف أهل الرأي والدفع بسقف الحريات إلى مستويات تليق بالإمارات.

وكانت الاستجابة سريعة وحاسمة ومفرحة، فقد جاءت التوجيهات بالتريث وعدم السير في مشروع قانون الأنشطة الإعلامية، وأكدت القيادة السياسية في الإمارات عبر هذه الاستجابة، أنها تتحلى بالتسامح ورحابة الصدر، وأنها تتفهم مطلب رفع سقف الحريات، وتؤيد طلب رفع الوصاية الإدارية والبيروقراطية القاتلة عن العمل الصحافي والفكري والأكاديمي. فهي حريصة كل الحرص على سماع كل الآراء، كما أنها مستعدة للتواصل المباشر مع المجتمع بجميع فئاته وشرائحه، خصوصا شريحة الكتّاب، وتثق كل الثقة في الحس الوطني السليم لأبناء وبنات الإمارات مهما كان مختلفا ومخالفا وناقدا.

كما تأتي هذه الاستجابة لتبرهن أن قناعات القيادة السياسية ومواقفها تجاه الحريات تختلف كل الاختلاف عن قناعات ومواقف القيادات البيروقراطية المتخندقة في خندقها البيروقراطي والتي أصبحت «ملكية أكثر من الملك»، فكل همّ القيادة البيروقراطية العتيدة هو الحفاظ على مصالحها والتمترس في مواقعها، وأكثر ما تخشاه هو الرقابة والحرية والشفافية والصحافة الوطنية الملتزمة.

مهما كان الأمر بالنسبة لموقف المجلس الوطني وحذر القيادات البيروقراطية في الدولة، فإن الرسالة والاستجابة تشكلان لحظة مهمة في تاريخ العمل الوطني وفي العلاقة المنفتحة بين الحاكم والمحكوم في الإمارات. هنا يبدو الوطن في أفضل حالاته وتبدو الإمارات متألقة كل التألق.

بعد أن ازدادت الممنوعات في الصحافة المدونة في الآونة الأخيرة، وتضاعف إحساس الكتاب المواطنين أنهم غير قادرين على مواصلة الكتابة، وبرز إحساس لدى أصحاب الرأي أنهم غير قادرين على التعبير عن رأيهم، تأتي استجابة القيادة السياسية المنفتحة على مطالب أهل الرأي والدراية، لتعيد الثقة من جديد في أبناء وبنات الوطن، وفي العمل الوطني المسؤول الذي يضع مصلحة الإمارات فوق كل اعتبار.

* أكاديمي وباحث إماراتي

back to top