قيادات ليست بقيادات

نشر في 27-01-2009
آخر تحديث 27-01-2009 | 00:00
 د. عبدالخالق عبدالله قال الأمين العام لجامعة الدول العربية، لدى افتتاح قمة الكويت إن «الوطن العربي يواجه اليوم مشكلة أكبر من الجرائم الإسرائيلية التي ارتكبت في غزة، هي مشكلة الانقسام العربي الذي لا يبشر بخير وأصبح لا مخرج منه». لكن ما لم يقله عمرو موسى بنفس القدر من الوضوح، أن الانقسام العربي على خطورته يهون كثيرا مقارنة بالانقسام الفسطيني الذي يؤجج باستمرار الانقسام العربي، ويكسر ظهر الشعب الفلسطيني الصابر على مأساته منذ 1948.

لا يوجد ما هو أسوأ من الانقسام العربي سوى الانقسام الفلسطيني المزمن. ولا يوجد ما هو أخطر من خلافات القادة العرب سوى صراعات ومهاترات واتهامات القيادات الفلسطينية، التي تدهورت بشكل شنيع وبلغت مستويات غير مسبوقة خلال فترة ما قبل وما بعد الحرب الإسرائيلية الإجرامية على غزة.

لقد أكد المفكر الفلسطيني المرحوم هشام شرابي في أكثر من مناسبة أن الشعب الفلسطيني أصيب بنكبتين وطنيتين هما سبب معاناته الإنسانية واخفاقاته السياسية كافة. النكبة الأولى، هي نكبة الاحتلال الصهيوني ومأساة ضياع الوطن. أما النكبة الثانية، فهي نكبة القيادات والزعامات الفلسطينية المنغمسة في حروبها العبثية التي خدمت إسرائيل وأضرت بالقضية الفلسطينية العادلة، وجلبت لها انتكاسات متكررة توزاي في نتائجها الوطنية الكارثية ما جلبه الاحتلال الصهيوني على مدى الـ60 سنة الأخيرة.

كانت خلافات القيادات الفلسطينية فاقعة في الوقت الذي كانت المعركة والمأساة الإنسانية في غزة تتطلب أن تتجاوز هذه القيادات حروبها الداخلية التافهة وتقف موحدة ومتحدة في أول معركة عسكرية تتم مع العدو الصهيوني الشرس على أرض فلسطين منذ عام 1948. لم تكن القيادات الفلسطينية، في السلطة والمقاومة، في الضفة وغزة، في الداخل والخارج بمستوى المسؤولية وبمستوى تضحيات الشعب الفلسطيني الصامد صمودا أسطوريا. لقد ارتكبت هذه القيادات أخطاءً قاتلة في كل مرحلة من المراحل التاريخية بما في ذلك خلال معركة غزة الأخيرة.

لقد أكدت هذه المعركة، والمعارك الصغيرة والكبيرة السابقة، أن القيادات الفلسطينية ليست بقيادات. فحساباتها دائما ما تكون سياسية وليست مبدئية، واعتباراتها ذاتية وليست وطنية، ومنطلقاتها آنية وليست استراتيجية ومصالحها مختلفة عن مصالح القضية الفلسطينية. الشعب الفلسطيني يستحق قيادة أكثر حنكة لإدارة معركته مع العدو الصهيوني. إن استمرار هذه القيادات في إدارة التسوية والمقاومة سيؤدي إلى المزيد من التفريط في القضية العادلة والمزيد من المعاناة لشعب عربي طال أمد معاناته كثيرا.

جاءت معركة غزة لتؤكد أن قيادات التسوية واتفاقية اوسلو وتفاهمات «كامب ديفيد» ومشروع السلام مع إسرائيل، منعزلة كل الانعزال، ومهمشة كل التهميش ولا تقود الشارع الفسطيني. هذه القيادات مترهلة وتعيش في مكان خارج هذا المكان، وزمان غير هذا الزمان. لم تعد قيادات التسوية تملك المصداقية والرؤية الملهمة، بل إنها تدور في حلقة مفرغة من المفاوضات من دون أي افق زمني وسقف سياسي وطموح وطني مقنع. فكل همها البقاء في السلطة والاستفادة من الثروة والبروز الإعلامي والانغماس في صولات وجولات تفاوضية لا تقدم ولا تؤخر.

بعد أكثر من ثلاثة عقود من السير في التسوية لم تتمكن قيادات التسوية من الحصول على التسوية، ولم تأتِ بالدولة الفلسطينية ولا يوجد ضوء في نهاية النفق. لا يوجد على أرض الواقع سوى الاحتلال والحصار والمزيد من اللقاءات والمفاوضات والمناورات التي مع الجانب الإسرائيلي المرواغ. حصيلة التسوية المزيد من السير في التسوية من دون أي تسوية مقنعة. لم تكن قيادات التسوية حكيمة في إدارتها للتسوية في السابق ولا يتوقع أن تكون محنكة في إدارتها الآن نيابة عن الشعب الفلسطيني الذي انتظر طويلا الحصول على دولته المستقلة كبقية شعوب العالم.

أما قيادات المقاومة التي تعيش حاليا وهم النصر في معركة غزة، فهي ليست بأفضل حالا في إدارتها للمقاومة. فالمقاومة مستمرة باستمرار الاحتلال الإسرائيلي. وسيظل خيار المقاومة قائما وباقيا ومشروعا ويستحق كل الدعم حتى يتم تحرير كل شبر من أرض فلسطين. لكن قيادة المقاومة لم تتفرغ كما يجب أن تتفرغ بالكامل للمقاومة، بل عينها على السلطة، وهي في حالة صراع مع قيادات السلطة وذهبت بعيدا في هندسة انقلاب عسكري فاضح على السلطة وتلجأ إلى الوسائل الميكافيلية كافة للبقاء في السلطة. لم تأخذ قيادات المقاومة بمقولة «دع السلطة للسلطة» وعندما أتت إلى السلطة لم تتمكن من التوفيق بين ضرورات السلطة ومتطلبات المقاومة.

معركة غزة بنتائجها الإنسانية الكارثية التي هزت الوجدان العالمي، أكبر دليل على فشل قيادات المقاومة. لا شك أن الكيان الصهويني وحده يتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية للجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، لكن قيادات المقاومة مسؤولة مسؤولية كاملة عن سوء الإعداد وسوء التقدير والتوقيت وسوء التجهيز وعدم توفير الحماية للأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء الذين ذبحوا ذبحا في معركة غير متكافئة. لقد خذلت المقاومة أهل غزة ومن العبث الحديث عن النصر الذي يستخدم للبقاء في السلطة.

وبقدر ما انه يمكن الجزم بثقة ما بعدها ثقة، أن القضية الفلسطينية خرجت منتصرة وحصلت على التأييد السياسي والتعاطف العالمي والاحتضان الإنساني، وفرضت نفسها مجددا على الأجندة العالمية بسبب عمق المأساة والفجيعة الإنسانية، فإنه لا يمكن القول بنفس القدر من الثقة إن المقاومة حققت نصرا عسكريا أو سياسيا حاسما ومقنعا في معركة غزة. فبعد أن وضعت قيادات المقاومة قدما في المقاومة وأخرى في السلطة لم تعد مقنعة في إدارة أي منهما.

إن أول متطلبات مرحلة ما بعد معركة غزة هو وقف الانقسام الفلسطيني، ثم وقف الصراعات بين القيادات الفلسطينية. وحيث إن المعطيات تشير إلى إستحالة هذا الأمر، فإن الخيار الآخر أمام الشعب الفلسطيني هو اختيار قيادات بديلة والاسراع في رحيل قيادات التسوية المترهلة وقيادات المقاومة الغوغائية. لقد حان الوقت أن تسلم راية القضية وراية التسوية كما راية المقاومة إلى جيل جديد ومختلف وأكثر قدرة على إدارة المعركة المعقدة والممتدة مع الكيان الصهيوني. المطلوب الآن انتخاب قيادة واحدة تتحدث بصوت واحد ونهج واحد وتمثل الشعب العربي في فلسطين الذي صمد طويلا، وصبر كثيرا ولم يعد يحتمل ويتحمل المزيد من حماقات قياداته وصراعاتها العبثية والعدمية.

* أكاديمي وباحث إماراتي

back to top