أوروبا والتحول الديمقراطي عربياً
الأوروبيون يبحثون باستمرار عن تأمين التعاون مع النخب العربية لمواجهة أزمات البطالة والفقر وحقوق الإنسان، ولا يرغبون في إفساده أو في تهديد مصالحهم التجارية والاقتصادية بحديث مُلح عن ضرورة الإصلاح السياسي لا يستسيغه معظم حكام العرب.تناولت في مقال الأسبوع الماضي مواقف مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية السيناتور أوباما والسيناتور ماكين من مسألة الديمقراطية في العالم العربي، واليوم أتابع بتحليل التوجهات الراهنة للدول الأوروبية الكبيرة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا.من جهة أولى، يتفق الأوروبيون بوضوح مع تقييم أوباما وماكين السلبي لفرص التحول الديمقراطي عربياً. القراءة الأوروبية تفسر الإخفاق العربي في إنجاز نقلات حقيقية على مستويات التداول الديمقراطي للسلطة وبناء حكم القانون والحد من سيطرة السلطة التنفيذية على المؤسسات التشريعية والقضائية بمحدودية إرادة الإصلاح لدى النخب الحاكمة وسطوة الأجهزة الأمنية وضعف حركات المعارضة وصراعاتها التي لا تنتهي.من جهة ثانية، يميز الأوربيون في ما دون هذا الإطار العام- وعلى خلاف مواقف أوباما وماكين- بين حالات عربية كالمغرب والكويت تطورت بها آليات مستقرة للمنافسة السياسية وتراجعت بها إلى حد بعيد ممارسات كتزوير الانتخابات وانتهاكات حقوق الإنسان، وحالات أخرى إما لم تتجاوز بعد المنافسة السياسية المقيدة المدارة أمنياً على النحو المتبع في مصر والأردن، أو تغيب عنها تماماً المنافسة وتختزل بها الحياة السياسية إلى قمع وتعقب للمعارضين كما هو الحال في سورية وتونس، على سبيل المثال. المهم هنا أن الأوروبيين يرون تأسيساً على هذا التمييز وبواقعية شديدة، وجود بعض الفرص المحدودة لدعم التحول الديمقراطي من الخارج في مجتمعات كالمغرب والكويت، وانعدامها شبه الكلي في الحالات الأخرى.لا يعني هذا استعداد الأوروبيين غض الطرف عن التطورات السياسية في مجتمعات كمصر والأردن وسورية. بل التركيز في إطار الشراكة الأورو-متوسطية والعلاقات الثنائية بين الدول الأوروبية والعربية على قضايا مثل مكافحة الفساد، وتحديث المؤسسات العامة، ودعم المنظمات غير الحكومية، والضغط من أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان. وفي المقابل، ترك مسألة التحول الديمقراطي للتطورات الداخلية من دون السعي إلى هندستها أو إداراتها من الخارج.من جهة ثالثة، يدرك الأوروبيون أن الأدوات المتاحة لهم لتحفيز النخب العربية على احترام أفضل لحقوق الإنسان وضمان حرية أكبر للمنظمات غير الحكومية شديدة المحدودية. فهم لا يقدرون على توظيف علاقاتهم التجارية وتعاونهم الاقتصادي مع العرب- وتلك مصالحهم الحقيقية- للدفع بهذا الاتجاه في لحظة تتعدد فيها البدائل المطروحة على العرب للشراكة التجارية والاقتصادية من الولايات المتحدة إلى الصين إلى روسيا. تخشى الدول الأوروبية أيضاً من تفاقم أزمات البطالة والفقر بجوارها العربي في حوض البحر الأبيض المتوسط وتداعياته السلبية على أوروبا ممثلة في مشكلة الهجرة غير الشرعية. والنتيجة هي أن الأوروبيين يبحثون باستمرار عن تأمين التعاون مع النخب العربية لمواجهة مثل هذه الأزمات ولا يرغبون في إفساده أو في تهديد مصالحهم التجارية والاقتصادية بحديث ملح عن ضرورة الإصلاح السياسي لا يستسيغه معظم حكام العرب.تبقى القراءة الأوروبية لمسألة التحول الديمقراطي في العالم العربي أكثر توازناً من نظيرتها الأميركية. فلا اندفاعات سريعة إلى الأمام تتبعها تراجعات كبرى، ولا رؤية إيديولوجية تريد أن تأتي الديمقراطية العربية فقط بأصدقاء واشنطن لمقاعد الحكم وإلا حاربتها (تجربة حماس في فلسطين والموقف الأميركي منها). بل تقدير موضوعي للممكن وغير الممكن عربياً، وقناعة واقعية بمحدودية الأدوات المتاحة وأولوية المصالح التجارية والاقتصادية على كل ما عداها... بما في ذلك حقوق الإنسان.* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي.