فصل الحكم عن الحكومة... استقرار وديمومة

نشر في 14-01-2009 | 00:00
آخر تحديث 14-01-2009 | 00:00
قلنا أكثر من مرة، ورددنا كثيراً أن ابتكار نظرية الخطوط الحمراء في العمل السياسي وفي تطبيق الممارسة الدستورية سيدخلنا في أنفاق لا نهاية لها، وسيجعلنا ننتقل من أزمة الى أخرى، ومساومات لها أول وليس لها آخر على حساب الوطن ومصالحه الحقيقية، حفاظاً على أشخاص لشخوصهم!

حين خطَّ المشرِّعون دستور البلاد قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمان لم يدُر في خلدهم أن منصب رئاسة الوزراء مرتبط بولاية العهد، لذا لم يحصّن هذا المنصب من المساءلة، لكنّ المشرعين ارتأوا أن تصل حدود المساءلة إلى عدم التعاون معه بدلاً من حجب الثقة عنه، كما هو الحال بالنسبة لباقي الوزراء.

ومنذ التشكيل الحكومي الأول بعد إقرار الدستور عُمل بعُرف دمج ولاية العهد مع رئاسة الوزراء، مما عقَّد العلاقة بين البرلمان والحكومة، فكيف يمكن مساءلة رئيس الوزراء (ولي العهد) وعدم التعاون معه، ثم القبول به أميراً للبلاد؟

هذا الوضع المعقد والشديد الحساسية انعكس على العمل السياسي والعلاقة المتذبذبة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو ما دفع بعض الساسة والمهتمين بالشأن العام إلى الدعوة قبل سنوات إلى ضرورة فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء، نأياً بحاكم المستقبل عن التجريح والمساءلة. وقد وُوجِهت تلك الدعوات بالرفض الشديد والقاطع من مؤسسة الحكم قاطبة حينئذ، وممن يعتقدون أن ذلك تجريد للحكم من الصلاحيات والامتيازات، وأنهم لا يريدون أن يصبحوا «مثل ملكة بريطانيا... تملك ولا تحكم».

مع استمرار العمل أكثر من أربعة عقود في المزاوجة بين المَنصبين أصبح عرفا سائدا أن يمر مسند الامارة عبر رئاسة الوزراء، لكن الأصوات -بعد تجربة الغزو وتحرير الكويت- بدأت تتعالى من خارج الأسرة ومن داخلها (إلى حد ما) بضرورة الفصل بين المنصبين حمايةً لأمير المستقبل، ونأياً به عن التجريح والتشكيك والمساءلة... لكن الوضع استمر على ما هو عليه، غير أن ذلك العرف المعمول به بقي سائدا ومعمولاً به حتى اضطر سمو الشيخ جابر الأحمد -رحمه الله- في أواخر أيامه إلى فصل المنصبين، بتعيين سمو الشيخ صباح الأحمد رئيساً للوزراء.

وبعد وفاة الشيخ جابر ودخولنا في أزمة الحكم الشهيرة، التي حسمها البرلمان في سابقة سياسية نادرة على المستوى العالمي، تولى سمو الشيخ صباح الأحمد مسند الإمارة، وبعد اختياره سمو الشيخ نواف الأحمد ولياً للعهد كان الكل في انتظار قرار سموه إلى مَن سيسند رئاسة الوزراء؟ وهل سيعمل بالعرف القديم في الدمج بين المنصبين؟ لكن سموه اختار الشيخ ناصر المحمد رئيساً للوزراء، وبذلك حصَّن أمير المستقبل، ونأى به عن المجاذبة والمساءلة مع البرلمان، وحماه من التجريح والتشكيك، وهو المبدأ الذي استند إليه الداعون إلى ذلك عندئذ من رجالات الكويت، وحتى من عدد من أبناء الأسرة.

أثبت سموه باتِّخاذه هذا القرار أنه قد قرأ المستقبل بشكل دقيق، مستندا إلى دروس الماضي خلال أكثر من أربعة عقود من الزمن، وكان قراره تأكيدا لعُرف جديد، هو أن الطريق إلى مسند الإمارة ليس بالضرورة المرور عن طريق رئاسة الوزراء، وها هو الشيخ نواف ولياً للعهد، ولم يكن رئيساً للوزراء.

نقول هذا، لأن هناك من يبرر نظرية الخطوط الحمراء، بقوله ان رئيس الوزراء هو أمير المستقبل، وهو تبرير لا يتماشى مع ما اختطه صاحب السمو في فصله بين المنصبين، وفي تعيينه ولياً للعهد لم يكن رئيسا للوزراء.

لذا، فحين ندعو إلى فصل الحكم عن الحكومة فإنما ندعو الى النأي بحاكم المستقبل عن التجريح من جهة، وتخفيف اعباء المسؤولية التي يتحملها الحكم بسبب اخطاء الحكومة أو سوء أدائها من جهة أخرى... وحين ندعو إلى ذلك فإننا لا ندعو الى «شعبية» منصب رئيس الوزراء، فهذا حق مطلق لصاحب السمو الأمير، وله حرية اختيار الكفاءة التي يراها، سواء من أبناء الأسرة من ذرية مبارك الصباح، أو من غيرها، أو أيٍّ من كفاءات أهل الكويت، فهذا حق مصون لسموه وحده.

إن الشيخ ناصر المحمد حين يقبل تحمُّل مسؤولية رئاسة الوزراء فإنه يدرك جيدا حجم ما يترتب عليها، والحقوق الدستورية لمساءلته وحق استجوابه، ومتى بقي محصناً بنظرية الخطوط الحمراء بقيت أزماتنا ومشاكلنا كما هي، وبقي عبء الحكومة أثقل على كاهل الحكم، وسيكون مطلوباً من الحكم أن يحمي الحكومة بدلاً من أن تحميه هي، لذا فتعامل رئيس الحكومة بمعزل عن مبدأ «الترانزيت» إلى مسند الامارة هو تحصين للحكم وفصله عن الحكومة استقرار للجميع وديمومة.

الجريدة

back to top