إميل سيوران... الفيلسوف الغاضب المرح

نشر في 26-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 26-12-2008 | 00:00
No Image Caption

ليس فعل الاحتجاج على ولادة الإنسان جديدًا، وربّما هو من عمر الإنسان الأوّل، الذي وجد نفسه غريبًا ووحيدًا يواجه الحياة شبه المستحيلة على الأرض، ولا يملك واحدًا من مسببات البقاء وهوَ مرغم على التحدّي تستبدّ به غريزة البقاء حينًا، وحينًا آخر يجلده فكر التخلّي عن هذه الدنيا. وقد نادى عدد كبير من الفلاسفة والمفكّرين بتمجيد مَن كان له حظّ عدم الوصول الى الحياة، وتباروا في الاحتجاج على أنشطة الحياة كلّها ممجّدين الموت أو لاعنين إياه.

تطوّرت عبر الزمن جدليّة التفاؤل والتشاؤم، والبشرية كلها معنيّة بالحياة وما توصل إليه أي الموت، والناس على ضفَّتين متعارضتين منهم من يقرع الأجراس فرحًا عن ولادة إنسان ومنهم من يقرع الأجراس حزنًا. وليس إميل سيوران سوى واحد من الذين يحتقرون طلوع الشمس على الدنيا ويحتجّون من أعماق محابرهم على أرحام الأمّهات الخصبة.

جال الكاتب الجزائري حميد زنار عالم سيوران وقدّم له رسمًا تقريبيًّا، في كتابه «المعنى والغضب - مدخل الى فلسفة سيوران» الصادر عن «الدار العربيَّة للعلوم ناشرون»، يصلح للعرض في متحف الفلسفة والفكر الإنساني، ولجأ الى الاستشهاد بمن يشبهون سيوران فكريًّا أو يذكّر هو بهم من خلال بعض أفكاره فأتى النصّ حيًّا يجعلنا نشعر أن فيلسوف زنار ليس فريد فكر، إنمّا يندرج في لائحة طويلة احترفت أسماؤها هجاء الحياة.

يقول عمر الخيّام: «ما كان أسعدني لو لم أجئ للدهر يومًا ولم أرحلْ ولم أكُنِ»، وفي هذا السياق يظهر سيوران الرومانيّ الأصل والفرنسيّ الإقامة صاحب كتاب «مساوئ أن يكون الإنسان قد ولد». إلى اللاوجود يحنّ سيوران، إلى إقامته الهادئة في المطلق. فاللاوجود هو النعيم العذب حيث لا جسد ولا عقل ولا معرفة ولا حدود ولا نهاية ولا قوانين... وما الوجود سوى أن يكون الإنسان محكومًا بالغربة والنهاية، ولا قوانين... وما الوجود سوى أن يكون الإنسان محكومًا بالغربة والنهاية، فقط لأنّه ولد، ولأنّه صار سجين الجسد القبر.

وفي رحلة الغربة الطويلة يرصد سيوران نشأة والديانات والفلسفات، فالإنسان يقوده ضعفه أمام جبروت الطبيعة والحياة الى البحث عن أفكار تشكّل خشبة خلاص تساعده في الانتقال من ضفّة الحياة إلى ضفّة الموت التي يكتنفها الضباب مذ وعى الإنسان وجوده.

نهايات

الولادة عبء سيوران الثقيل «حينما عرفت بأنّني ولدت انتهى كلّ شيء بالنسبة إلي». هكذا يعلن الفيلسوف الروماني نهايات الأشياء بمجرّد فعل الولادة، وما يدفعه نحو مزيد من التصلّب في موقفه رفضه الديانات كلّها فهو مؤمن بالأولاد فحسب، بالوجود غير القابل للوعي والتجسّد، بالحضور المخفيّ المجهول الذي لا يشكّل أيّ محسوس ماديّ، وهو يمجّد التوق إلى زمن الحريّة الموشوم بالبراءة والمعنى والحرّيّة. وكيف لا يعتنق سيوران الكآبة: «لا يمكن أن تتوقّف إلا مع آخر قطرة من دمنا». ولا شكّ في أنّ كآبته بمنتهى العمق وربّما هي التي تمدّه بالتصلّب في موقفه من الحياة، وهي التي تحثّ قلمه لأجل كلماتٍ كثيرة يجب أن تُكتب مرتدية جمالها الذي لا يذبل.

اعترض مفكّرون كثيرون على الموت واسترسلوا في التعبير عن خشيتهم منه، أمّا سيوران فلم يشكّل له الموت هاجسًا، وحدها الولادة كسرت قمقم فرحه، وشرَّدته من عالم السعادة، فلعنها ووجدها أكثر رهبة من الموت لأنّها الموت الحقيقي، فيكفي الإنسان أن يولد ليصير ميتًا بما أنّه سقط من كينونة الروح واستوطن جسدًا عابرًا ليصير هو بدوره عابرًا أيضًا. أمّا الاستمرار في الحياة فيراه سيوران فعل احتجاج بمواجهة الحقيقة، ما يعني أنّ الانتحار هو تلبية لنداء الحياة.

على رغم ذلك بارك سيوران المنتحرين لأنّهم رفضوا الحياة وفي أعماق هذا الرفض رفض للولادة أيضًا. يقول الفيلسوف المبشّر بمساوىء الولادة «لو كان لي أبناء لخنقتهم فوراً»، إنّه يريد تحميل أولاده الذين لم يولدوا فكره ويرهقهم به، لذلك حرمهم الحياة ليبقوا حيث لم يستطع البقاء، ما يذكّر بأبي العلاء المعرّي الذي رفض أن يجني على أحد مثلما جنى أبوه عليه بالإتيان به إلى هذه الدنيا.

ارتبط اسم سيوران بهجاء الولادة، وارتباط اسم أبي نواس بالخمر، وعجزت الفلسفة عن مصالحته مع الوجود، لأنّه يكتب بأعصابه ومشاعره، ليبدو فيلسوفًا انفعاليًا يقرأ الحياة وتفاصيلها اليوميّة وأنشطتها العاديّة بنزق يجعله دائم الاضطراب، فالعقل عنده أسير انفعالاته وتُختصر اهتماماته الكتابيّة برفض الولادة، غير أنّ الأسلوب والصورة يتغيران «يمكن أن أقترف أيّ جرم ما عدا أن أكون أبًا»، وفي مكان آخر يتمنّى لو نولد شيوخًا ونصغر يومًا بعد يوم عسى أن نعود إلى فردوسنا حيث الحرّيّة واللانهاية والفرح.

تمجيد الألم

كتب سيوران 50 سنة ولم يتغيّر فكره، فبقيت الولادة همّه الأوّل والأخير. وقد مجد الألم واعتبره أبا الفكر والجمال مارًّا بكبار مرضى من أمثال كافكار وبودلير ونيتشه... لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع الإنسان رفع عذابه الشخصيّ إلى مستوى رؤية العالم من خلاله؟

يتّجه سيوران الى مديح الجهل لأنّ في ازدياد المعرفة ازديادًا لعدم الاستقرار وعدم التوازن، فالجهالة هي الوطن والوعي هو المنفى، وقد يلتقي بهذا الكلام مع المتنبيّ القائل: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله / وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم». فما الجدوى من المعلّمين والمدارس والكتب، والأجدى أن نؤسس للرجوع إلى حالة الجهل الأولى ولتكن الحياة بلا هدف وصولاً إلى إلغاء أنشطة الحياة كلها التي ترمي إلى خير الإنسان ومعرفته وراحته.

يقول سيوران إن أصحاب العقائد ينظرون إلى اللغة كوسيلة للتعبير عمّا يؤمنون به فلا يحفلون بتحويلها تحفة فنيّة، أمّا الذين لا عقيدة معيّنة لهم، شأن سيوران، فإنّهم يتعلّقون بالكلمات لأنها عقيدتهم فيعملون على إيقاظ الجمال فيها قدر المستطاع...

ليس سهلاً تحديد هوية سيوران الفلسفيّة فهو يفكّر بشاعريّة ويعلن أنّ المسائل الحقيقيّة تفلت من قبضة الفلسفة. لكن ممّا لا يرقى إليه الشك أنّ سيوران شخصيّة فكريّة مميّزة بخلفيّتها المتعدّدة الثقافات وبإبداعها.

back to top