في مواجهة المرض

نشر في 31-12-2008
آخر تحديث 31-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان «الداء قبل الدواء» يقول الحكماء والأطباء مؤكدين إن تشخيص المرض وتحديده والاعتراف بوجوده يأتي في المرتبة الأولى قبل البحث عن الدواء أو اللجوء إلى طرق العلاج المختلفة القادرة على إزاحته أو تقليص خطره، والاعتراف بوجود المرض له قبل كل شيء أهميته، فالمريض يرفض أحيانا الاعتراف بوجود مرض ينال من هيبته أو يفشي عجزه وضعفه ويستبعده من مجتمع الأصحاء فيلجأ عادة إلى اتهام الأطباء والتقليل من شأن علمهم وخبراتهم، وقد صادفت الكثير من المرضى الذين كانوا يغيرون أطباءهم بشكل دائم ولا يمنحون أحدهم الفرصة أو الوقت اللازمين لتحديد المرض ومحاصرته ويهدرون من ثم الكثير من الوقت والجهد قبل الرضوخ في النهاية بعد تمكن المرض وتفاقم الضعف.

ويجسد الكاتب والروائي «دينو بوتزاتي» هذا الهلع الإنساني من المرض والسعي إلى إنكار وجوده والتشبث بعالم الأصحاء في قصته الجميلة «سبعة طوابق» وهي إحدى قصص مجموعة له ترجمها سمير القصير ونشرتها وزارة الثقافة السورية. و«بوتزاتي» قاص وروائي وشاعر وصحافي له بالإضافة إلى روايته الشهيرة «صحراء التتار» العديد من الروايات والمجموعات القصصية المهمومة بالوجود الإنساني. وتمثل العزلة بكل أشكالها أبرز قضايا ذلك الوجود، وهو في قصته «سبعة طوابق» يقدم لنا بطله «جوزيبي كورتي» سائرا على قدميه حاملا حقيبته الصغيرة ومتجها إلى دار الاستشفاء الشهيرة التي تشبه الفندق والمحاطة بالأشجار بعد أن ساقته إليها إحدى النشرات الدعائية.

بعد كشف سريع وبانتظار معاينة أدق وأشمل يوضع البطل في غرفة مريحة من الطابق السابع، وهوالطابق الأخير حيث المفروشات ذات ألوان زاهية ونظيفة والمخدات مكسوة بقماش متعدد الألوان والنافذة تطل على أجمل أحياء المدينة. وتطلعه إحدى الممرضات على الطابع الغريب للمستشفى، فقد كان المرضى موزعين على طوابقها حسب خطورة أمراضهم، فالطابق السابع مخصص للأمراض الخفيفة، مرضاه ضيوف أو أصحاء يأتون فقط للاسترخاء والاطمئنان على صحتهم. بينما الطابق السادس يضم مرضى حقيقيين وإن كانت أمراضهم ليست خطيرة أما الطابق الخامس فهو مخصص للأمراص الأكثر خطراً وهكذا بشكل متتابع من طابق لآخر، ويحدثه زميله نزيل الغرفة المجاورة عن شقيقه الذي ساءت حالته فظل يهبط حتى استقر في الطابق الرابع فيسأله بطل القصة عن نزلاء الطابق الأول فيجيب الجار «آه في الأول يقبع المشرفون على الموت تماماً وهناك في الأسفل لا عمل للأطباء ولا شيء يفعلونه والكاهن فقط يعمل».

طمأنت نتيجة الفحص الطبي العام بطل القصة وكلمات الطبيب الحميمة والمشجعة: «مبدئيا لديك أعراض المرض لكنها خفيفة جدا وعلى الأغلب خلال أسبوعين أو ثلاثة سيختفي كل شيء». فيسأله البطل «هل سأبقى إذن في الدور السابع؟» فيجيب الطبيب وهو يربت على كتفه بصداقة «بالطبع وإلى أين كنت تعتقد بأن عليك أن تذهب؟ إلى الرابع؟» وكأنه يلمح إلى أكثر الفرضيات استحالة. ثم تبدأ بعد أيام رحلة الهبوط التي يخشاها البطل ويقاومها عندما يزوره كبير الممرضين طالباً منه بمودة ولطف التنازل عن غرفته لسيدة ستدخل المستشفى مع طفليها والانتقال إلى غرفة أخرى مريحة وجميلة في الطابق السادس «وهو انتقال مؤقت فخلال يومين أو ثلاثة عل الأكثر سيمكنك العودة إلى الأعلى».

في المستشفى كان الطابق السابع هو ميناء الوصول الذي يعني الاحتكاك الدائم بمجتمع البشر الأصحاء والعالم المعتاد لكن انتقاله إلى الطابق السادس أدخله في جسم المستشفى الحقيقي ليدرك على الفور أن الأطباء والممرضات والمرضى أنفسهم كانوا مختلفين، ففي ذلك الطابق يتم قبول المرضى الحقيقيين حتى لو كان مرضهم غير خطير.

ومن السادس إلى الخامس فالرابع يتواصل الهبوط رغم صياح البطل وغضبه ومقاومته وإعلانه أن حالته الصحية ليست سيئة ولا تبرر أبدا كل هذا النزول إلى الأسفل وعندما ينتقل من الطابق الثالث إلى الطابق الثاني بحجة إغلاق الثالث لترميمه، يصر على إلصاق بطاقة على باب غرفته كتب عليها «جوزيبي كورتي من الطابق الثالث... عابر مؤقت». وتنتهي القصة بانتقاله الأخير محمولا إلى الطابق الأول.

في معظم أعماله يلح «دينو بوتزاتي» على إبراز هموم الوجود الإنساني وقضاياه الأساسية «الحياة- الموت- الانتظار- العجز والعزلة» الأمر الذي دفع النقاد في إيطاليا وأوروبا إلى مقارنة أعماله بأعمال الكاتب التشيكي «فرانتز كافكا».

في مواجهة المرض لا تختلف الأمم كثيرا عن الأفراد، فبعضها يكابر ويرفض الاعتراف بمرضه وجموده وضعفه وعجزه عن مجاراة الآخرين وتفضى المكابرة كما نرى حولنا إلى المزيد من الضعف والانحطاط والتخلف.

* كاتب وشاعر مصري

back to top