الملثمون يشوهون كل مطالب عادلة
في إحدى المرات التي زرت فيها أثينا، سألت نادلاً: لماذا تنامون حتى العاشرة صباحا لتبدؤوا العمل متأخرين كل يوم، فيما أنتم تظلون سهارى حتى الثالثة صباحا، بل يظل الشباب حتى طلوع الشمس يثرثرون في المقاهي؟ فوجدته مستغرقا في التفكير مبتسماً، وهو يضع لي القهوة و«السندوتشة» فوق الطاولة، فسألني من أين أنت؟ فأجبته من البحرين، فرد بضحكة قائلا: «بخرين، نايس كنتري»!! فقلت له وكيف عرفت أنها «نايس»؟ فأجاب لدي قريب يعمل في السفن والقوارب... بعدها قال اسمع يا صديقي: في البلدان الشمالية ينام الناس مبكرين كدجاجنا لا تسمع لهم صوتاً، ويصحون كذلك، ليس لأن الله خلقهم نشطاء وأذكياء أكثر من غيرهم، إنما جعلهم البرد والشمس يهجعون مبكرين ويستيقظون كذلك، أما نحن فلدينا الشمس والبحر وكلها نعمة حبانا الله بها، ثم التفت إلى زبائن المقهى الممتلئ بنساء أوروبا كلها، وقال انظر إليهن كلهن جئن من أجل شمس اليونان وجزرها وبحرها، جئن لكي يدفعن مبالغ من أجل عالم علينا أن نستمتع به ما حيينا، وأن نثرثر ونضحك ونصبح بحرارة إنسانية كما نريد، ونشتعل غضبا بأسرع مما تتصور، وننفعل لأن دمنا ممتزج بذلك المناخ وتلك التضاريس والأمزجة، فهل نستسلم للنوم طويلا في وقت سنلتقي فيه بالموت؟ غادرني النادل وهو يضحك، وعندما عاد ليجمع حاجاته والمبلغ المدفوع، قال: نراك غداً، ولكن عليك الاستمتاع بالوقت وبنظرك وبتلك الأجساد البرونزية فماذا تخسر؟ إنك لن تدفع فاتورة «ها ها ها ها» مد لي يده مودعاً اسمي نيقولا فرددت عليه باسمي.اليوم أتذكر أثينا التي كتب حولها أحد الزوار الأجانب واصفاً إياها بأنها المدينة التي لا تنام، فبدت بتلك النيران المشتعلة في الضواحي حتى عمق العاصمة التي يشكل دوار «السنديغما-الدستور» أحد مراكزها الحيوية، ويقع هناك مبنى البرلمان، إذ كلما نشبت صدامات وتظاهرات تتحول الأدخنة في تلك البقعة إلى كتلة من نار وجيش عريض من شرطة الشغب والمحتجين بغضبهم الإغريقي! فلماذا بدت أثينا أيام الأعياد منشغلة بالحزن والغضب في لحظة من التسوق الشاحب اليتيم في ليالي أعياد الميلاد؟ ولماذا تحولت الاحتجاجات السلمية إلى نوع من الفوضى والعنف والتكسير والتخريب؟ ومن الذي استثمر غضب الشارع ومطالبه الشرعية إلى نوع من الصدام المنحرف بين طرفي السلطة والمعارضة؟ هل تنجح المعارضة في استمرارها باستنزاف الحزب الحاكم من أجل إسقاطه والعودة إلى الانتخابات المبكرة أم يكابر بطريقة حمقاء؟ لسنا هنا في وارد تقديم تقرير مفصل عن حقيقة الأزمة وتطورها بشكل واسع لا تحتمله المساحة، ولكننا سنحاول إيجازها بشكل مقتضب: من يرون الصدامات الحالية فعليهم أن يستعيدوا ذاكرتهم التي بدأت مع شهر مارس، حيث أخذ التحرك العمالي في بلد باتت الأجور فيه متدنية قياسا بسلسلة من دول الاتحاد الأوروبي بما فيها قبرص الصغيرة، فوجدنا الإضرابات يومها تتوزع تدريجيا بين عمال المطار والمواصلات وقطاع الفندقة والمعلمين، ومؤسسات صناعية متعددة بما فيها عمال السفن. غير أن تلك المطالب العمالية فضلت نقاباتها أن تبقى إضرابات جزئية متنوعة وتتحاشى الإضراب العام المؤثر في الاقتصاد بشكل موجع، ومن ثم انعكاساته ستكون سيئة على مطالب العمال أنفسهم، ثم تبعت شهر مارس وما تلاه، أي ما بين أكتوبر ونوفمبر التحرك الطلابي والمعلمين حول النظام التعليمي في البلاد الذي حاول الحزب الحاكم تركه فريسة لمشاريع القطاع الخاص في ظل تدهور أوضاع المجتمع المعيشية وتدني حالة الشرائح التحتية، ومست الطبقة الوسطى كذلك.في تلك الشهور الماضية تحرك القطاعان العمالي والطلابي والمعلمون بشكل منفصل، وكانت الحركة الاحتجاجية محصورة في الجانب المطلبي، وعندما انفجرت في أوائل ديسمبر في الاتجاه نفسه شعرت أن الأمر المطلبي ما عاد مجديا مع بقاء النظام العاجز عن إدارة الأزمات وحلها، ومن الضروري رحيله بأسرع وقت ممكن، فتحولت تلك المطالب النقابية إلى مطالب سياسية بعد أن التقت في منتصف الطريق- كما يقولون- الحركتان الغاضبتان، وكان خلف هاتين الحركتين أحزاب اشتراكية وشيوعية، المختلفة أحيانا والمتفقة حينا آخر في الرؤية ونوعية الاحتجاج وطرق المعالجة. إذ أصدر الحزب الشيوعي اليوناني بيانا أعرب فيه عن عدم اتفاقه مع حزب الباسوك (الحزب الاشتراكي) الذي دفع بمجموعات ملثمة للتصعيد فعززت مشروع الفوضى والتخريب بعد أن انضم إليهم جزء من الشارع المنفلت والغاضب، الذي لم يستطع السيطرة على كل أنواع التدمير التي دفعت بجزء واسع من الناس إلى مواصلة التأييد لمشاريع إسقاط الحزب الحاكم، الذي يفصله عن المعارضة مقعد واحد في البرلمان، وبالإمكان هذه المرة الحصول عليه في الانتخابات إذا ما نجح الباسوك في إقناع اليسار بالتصويت له مقابل شروط يضعها حول البرامج وتوزيع الحقائب، وإلا يخسر كالعادة أصوات اليسار لانقسامه فينجح اليمين، فيما يخسر اليمين دائما اتفاق اليسار عند تلك المفترقات الحاسمة.لم يكن الفتى «ألكسندروس» وموته إلا فتيلاً يضيف زيتا إلى حريق أثينا وشوارعها، فيما راح الملثمون يعيثون فسادا دون حدود ودون معنى مما أساء لكل شيء مهم وجاد.* كاتب بحريني