غزتنا!

نشر في 17-12-2008
آخر تحديث 17-12-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي زادت المؤتمرات والمظاهرات في مصر من أجل غزة، وهذا أمر محمود، لولا أن «الزيت لو احتاجه البيت حرم على الجامع». تعرفت على غزة وعلى رفح عندما كنت ضابط اتصال على منفذ رفح عام 1983، حيث كنت مع بعض من زملاء الخدمة ندير منفذ رفح، وأحيانا منفذ طابا أو منفذ البضائع في العوجة. كنت قادما من قرى محافظة قنا، وأقسم بالله العظيم، أن رفح وغزة كانتا ومازالتا متقدمتين عن القرية أو المركز الذي ولدت فيهما بما يقرب من عشرين عاما.

في رفح كانت الطرق مرصوفة، وكانت هناك إنارة ولم تكن لدينا لا إنارة ولا طرق مرصوفة، وقعت عيني على الجوز واللوز والتفاح «الأمريكاني» لأول مرة في رفح، وفي غزة. كنت أقول لرفاقي أيامها بنوع من الغضب، «الناس اللي تحت الاحتلال أحسن حالا منا في كثير من قرى الصعيد»... أعرف أن البعض يرى في هذا مبالغة، خصوصا بعد أن روج الإعلام لتجربة قنا على أنها جنة الصعيد، رغم أن الحقيقة هي غير ذلك، وكل ما تحتاجه لإثبات الحقائق هو أن تذهب كصحفي إلى قنا من حر مالك وليس بدعوة من المحافظة، وتزور قرى قنا لتجد نفسك قد دخلت القرن الثامن عشر، ولكن هناك الكثيرون ممن يدوسوننا ليل نهار بتنمية الصعيد، والجميع يعرف أنني لست من هواة المعارضة، ولكنني ضد الكذب، وليس في الصعيد تنمية ولا يحزنون.

قبل مرحلة ذهابي إلى رفح كنت قد عرفت غزتنا وهي محافظة أسيوط في جنوب مصر عندما كانت تسيطر عليها الجماعة الإسلامية بقيادة الدكتور ناجح إبراهيم والمهندس عاصم عبدالماجد، كانت أسيوط في نهاية السبعينيات وبداية الثمانييات هي «غزة» مصر بامتياز، ولم يكن احتجاج الجماعة الإسلامية ليتزايد ويصل إلى درجة العنف التي وصل إليها في الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات سوى أن معظم الصعيد كان أيامها أقرب من غزة مع فارق بسيط.

يحكم غزة الآن إسماعيل هنية وجماعته وهم من أهالي غزة، أما حكام الصعيد من مأمور مركز الشرطة إلى المحافظ إلى مفتش أمن الدولة، فكانوا جميعا من بحري، ولا يشبهون أهل الصعيد كثيرا ولا يعرفون عاداتهم أو تقاليدهم، وكانوا مجموعة من المستشرقين، كالأجانب الذين كانوا يزوروننا، باستثناء حالة محافظ قنا المرحوم عبدالمنصف حزين، ومفتش وحيد لأمن الدولة يدعى بازيد، وكان رجلاً نوبياً طيباً، لم يكن في الصعيد أي من أبنائه في السلطة التي تدير شؤونه. كان الصعيد بهذه المقارنة أسوأ من غزة.

ثم زحف حزام الفقر شمالا ومعه الاحتجاج الإسلامي شمالا ليصبح حي إمبابة في منتصف التسعينيات هو «غزة» القاهرة... الحالة لا تقتصر على مصر وحدها فجبال صعدة التي يهمين عليها جماعة بدرالدين الحوثي منذ أكثر من عامين هي «غزة» اليمن... ومنطقة كيفان في العاصمة الكويتية اليوم هي مشروع لـ«غزة» الكويت... الجزائر بأكمله في التسعينيات كاد الإسلاميون أن يحولوه إلى «غزة» كبرى بنفطه وثرواته وخيراته... وبكل تأكيد، الجنوب اللبناني تحت سيطرة «حزب الله» هو «غزة» لبنان... أما «غزة» قطر فهي بلا شك قناة «الجزيرة»، إذن، لكل دولة غزتها... و«كل واحد يخلي باله من غزته»!.

الغريب في حالة غزتنا هو أن نواب مجالس الشعب والشورى عن الصعيد يتصدون لقضايا الأمن القومي وتهديداته من الخارج رغم أنهم قادمون من حزام الفقر المصري بامتياز، فلماذا يفضل نواب الصعيد وقرى ومراكز الدلتا الفقيرة أن يتباروا في علو الصوت حول «غزة» البعيدة ولا يتحدثوا عن غزتنا، هل في الهروب من الواقع نوع من الشياكة لأعضاء مجلس الشعب والشورى الذين يرون أنه من غير اللائق أن يتحدثوا عن عذاباتنا ويفضلوا الحديث عن عذابات الآخرين. رغم أن التنمية في عهد مبارك حسنت من أوضاع الصعيد شيئا ما، إلا أن الصعيد مازال «غزة»، وسينتج في المستقبل إسماعيل هنية في أسيوط وقنا وسوهاج والمنيا، وسيظهر خالد مشعل من تحت أنوف قيادات الحزب الوطني، ذلك لأن الكثيرين منا تبنوا الكذب والنفاق كبديل لتقديم تقييم الحالة في الصعيد، وعلى رئيس الوزراء أن يذهب إلى الصعيد بنفسه ودونما بهرجة، وأتطوع للذهاب معه ليرى بنفسه حجم الفقر في الصعيد، الصعيد الجواني وليس الشارع الوحيد المرصوف في مدخل كل مدينة أو محافظة.

تظاهروا من أجل غزتكم أولا، ودعوا غزات الآخرين لمن هم أولى بها... أعرف أن جملة واحدة تضرب هذا المقال في مقتل وهي أن هذا مقال «أميركاني» يريد أن يلهينا عن التضامن مع «غزة»... هذا كذب بواح يهدف إلى تغيير الموضوع، وأنا لست ضد التظاهر من أجل «غزة» كل يوم من قبل القادرين ومن لديهم رفاهة التظاهر من أجل قضايا خارجية، أما من لديه مصيبة محلية فليتظاهر من أجلها، وأدعو كل الكذابين أن يذهبوا إلى الصعيد ويستمعوا إلى الناس، ويسافروا في قطاراتهم وليس في الطائرات الرئاسية ليتعرفوا على غزتنا. فـ«الزيت لو احتاجه البيت حرم على الجامع».

 

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top