هذه المصالحة ... هل هي ممكنة أصلاً؟!

نشر في 04-12-2008
آخر تحديث 04-12-2008 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري وثمة عدة مقاييس فكرية للنظر فيها بشأن الاعتدال نذكر أبرزها؛ القبول بفكرة الإسلام المتسامح والمنفتح والعقلاني، أي الإسلام الأصلي كما بدأ في فجر الدعوة، والقبول بالتطور السلمي للدولة باعتباره النهج التاريخي المأمون في تجارب الأمم، والانفتاح على الاتجاهات الوطنية الأخرى في المجتمع، دون تخوين أو تكفير.

هذه إشكالية تتطلب اتخاذ قرارات صعبة صارت تفرضها الأحداث، ولا يمكن اجتياز تحديات المرحلة الراهنة دون اتخاذ قرارات صعبة على أكثر من صعيد، بل المخاطرة بما هو أصعب لتجاوز المهاوي المقبلة.

فثمة قناعة مثلاً بأن «القوى الدينية» في المجتمعات العربية والإسلامية تمثل قطاعات مؤثرة قد يختلف بشأن نسبة تأثيرها، ولكن لا يختلف على دورها وعلى تأثيرها من حيث المبدأ، وكلما طورت تلك القوى من نفسها وجنحت إلى الاعتدال وابتعدت عن التطرف وتبرأت من الإرهاب، فإنه من الحكمة استيعابها، وإتاحة الفرصة أمامها لتعود إلى طريق الصواب... أعني إلى النهج الإسلامي الصحيح المستند إلى قيم التسامح والانفتاح والاعتدال والعقلانية، وإن كان البعض يتخوف ويشكك في هذه الإمكانية أصلاً، حيث يستحيل في نظره أن يغلب التطبع على الطبع! وهذا تحفظ في محله، ولكن ذلك لا يمنع من التذكير بالنموذجين الإسلاميين التركي والماليزي حيث يقتربان مما هو مأمول.

ومن أبرز الأمثلة التي تتطلب مثل هذه القرارات الصعبة حالياً مثال «طالبان» أفغانستان- التي طلبت الحكومة الأفغانية بدعم من قوى غربية حليفة- من المملكة العربية السعودية أن تتوسط معها توصلاً إلى حل سياسي سلمي يخرج تلك البلاد الجبلية والقوى الموجودة في ساحتها من دوامة الحرب المهلكة التي لا يمكن كسبها في ضوء تجارب تاريخية سابقة أنهكت القوى الكبرى التي حاولت التدخل والتأثير فيها، سواء كانت بريطانية أو سوفياتية، وفي يومنا أطلسية. فالقبائل المتحصنة في جبالها ومواقعها تستطيع المقاومة لأمد طويل، وبإمكانها العودة إلى ما فقدته للوهلة الأولى، وكلما طال أمد الصراع، اشتد التمسك بنهج التطرف، والمسألة لا تنحصر في سطوة فكر متطرف، بل في وجود «بنية مجتمعية» تقوم عليه وتقاتل من أجله.

غير أن المقلق عدم ظهور أي مؤشرات من «طالبان» بقبول «المصالحة»- مسلكاً وفكراً- والتوجّه نحو «الاعتدال»، بل حدوث العكس، حيث اعتدت عناصر يشتبه في أنها منها على طالبات مدارس مع ورود أنباء عن تشجيع طالبان باكستان لذلك الاعتداء!

ولقد حددت المملكة العربية السعودية شروطاً واضحة لمحاولة التوسط مع «طالبان» أوجزها الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمر صحفي عقده مع نظيره وزير الخارجية الألماني الذي تشارك بلاده بقوة عسكرية مؤثرة في أفغانستان بأن السعودية ترحب باستضافة مؤتمر المصالحة الوطنية الأفغانية، وذلك بعد أن يصلها طلب خطي ورسمي من الجانب الأفغاني، وأن تأتي المجموعات المشاركة في المصالحة «بعقل مفتوح وقلب مفتوح»، وأن يكون هدفها الاتفاق فعلاً لا إثارة المشاكل، وأن يكون واضحاً لدى الأطراف المتورطة سابقاً رفض الإرهاب ورفض التعاون مع الإرهابيين. ومن دون قبول هذه الشروط فلن يكون بالإمكان بدء حوار مثمر بين الأطراف المعنية، ومن المتوقع أن يكون موسم الحج المقبل على الأبواب موعد الحسم لهذه المصالحة التاريخية سلباً أو إيجاباً.

والواقع أن السعودية الخارجة للتو في الداخـل من محاربة الإرهاب والانتصار عليه مبدئياً، تبدو مؤهلة لمثل هذا الدور بحكم معرفتها السياسية والأمنية بدخائل هذه الظاهرة الخطيرة التي انجرفت إليها «طالبان» وتريد الآن الخروج منها وانتهاج نهج جديد، وثمة تحليل راجح يسود وهي أن طالبان كتنظيم منفصل عن «القاعدة» هي التي أحدثت التحول في الساحة الأفغانية، فكيف يمكن للأوساط المسؤولة في عالمنا الإسلامي أن تنظر إلى هذا التحول وتقيّمه.

ثمة آراء مختلفة، بل متضاربة بشأنه من جانب الدول الإسلامية، وثمة شروط سعودية واضحة إذا تم الإقدام عليه. فوزير خارجية إيران -مثلاً- يحذر من احتماله لانعدام الثقة بين إيران وطالبان، ولكن الأوساط الباكستانية تبدو ميالة له، هذا فضلاً عن الطلب الذي تقدم به رئيس الحكومة الأفغانية إلى المملكة العربية السعودية، وكل طرف له حساباته السياسية الخاصة به، ولكن ينبغي الإقدام على هذا التحول بعيداً عن التكتيكات السياسية الآنية لهذا الطرف أو ذاك، والواقع أن الرئيس الأفغاني كرزاي يبدو «المعتدل» الوحيد في الساحة التي لم تنقذها كثافة القوات الأطلسية والأميركية، وعادت «طالبان» إليها بعد سنوات من التراجع بالتشدد ذاته.

إن المسألة فكرية ومصيرية وتاريخية، أبعد من تكتيك السياسة، وإذا حدث مثل هذا التحول وأصبح إمكانية سياسية قائمة، فإن قوى أخرى يمكن أن تأخذ هذا النهج ونصبح أمام صفحة جديدة من التطور السياسي والاجتماعي والفكري في العالم العربي والإسلامي، ولدى مصر، مثلاً، تجربة غنية بهذا الصدد، حيث وضعت برنامجاً لمحاورة المتطرفين وإعادة تأهيلهم- وهم في السجن- وخرج منهم عدد لا يستهان منه بعد إعلان «توبتهم» ونعتقد أنهم في أغلبيتهم غدوا «عناصر صالحة» ولم نسمع عن انجرافهم إلى طريق الإرهاب والعنف من جديد... وتلك تجربة جديرة بالدراسة والنظر، كما أن المصالحة الوطنية النهائية في العراق، لا يمكن أن تتحقق إلا بالتقاء مختلف الأطراف المتضادة ودخولها -بدايةً- في حوار مشترك.

وأمام «الحوثيين» في اليمن استحقاق المصالحة مع الدولة، وهي مصالحة سعت وتسعى إليها دولة قطر، مثلما سعت إلى المصالحة في لبنان وحققت نجاحاً مرحلياً لافتاً فيه، وكذلك سعيها للمصالحة بشأن دارفور في السودان، وليس من الضروري أن تنجح كل محاولات المصالحة، ولكن المهم أن يكون هناك توجه جاد بهذا الشأن من أطراف عربية مسؤولة وقادرة، وهناك برلمانات عربية عديدة كما في مصر والأردن والمغرب والبحرين يشارك فيها «إسلاميون» بشكل أو بآخر.

إن مسألة التحول إلى «الاعتدال» ليست مسألة سهلة، فما «الاعتدال»؟ وما مقاييسه؟

ونعتقد أنه من المهم أن يكون ثمة وضوح فكري بشأنه سواء لدى الحكومات والرأي العام والمقدمين عليه، خصوصاً هؤلاء المتحولين إليه من أصحاب السوابق المتطرفة.

وثمة عدة مقاييس فكرية للنظر فيها بشأن الاعتدال نذكر أبرز ثلاثة منها في تقديرنا:

1- القبول بفكرة الإسلام المتسامح والمنفتح والعقلاني، أي الإسلام الأصلي كما بدأ في فجر الدعوة، وانتشر عالمياً، وأقام حضارته الجامعة للجميع، ونبذ الصورة التي يحاولون تصوير الإسلام بها على أنه «تكفيري» و«إقصائي» و«عنيف»، والعودة إلى ما نادى به القرآن الكريم منذ فجر الدعوة: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن».

2- القبول بالتطور السلمي للدولة باعتباره النهج التاريخي المأمون في تجارب الأمم، وتجنب الدخول في مغامرات العنف الانقلابي الذي تدفع حياله الأمم الكثير من دمائها، كما شهده التاريخ في تجارب أمم كثيرة.

3- الانفتاح على الاتجاهات الوطنية الأخرى في المجتمع، دون تخوين أو تكفير، وكذلك على اتجاهات الحضارة الإنسانية ودروسها وتجاربها، والاطلاع على علومها وأفكارها ومآثرها كما فعل المسلمون الأوائل مع «حضارات الأقدمين» وعطاءاتهم، وبذلوا النفس والنفيس لترجمة علومهم وفلسفاتهم لاختيار ما يناسبهم منها. وكما قال الفيلسوف العربي الكندي بما معناه: «إن طالب الحق يشرفه الحق ويعلي من قدره ولن يضيره شيئاً»، ولن يدرك الإنسان الحق إلا بعد الاطلاع على العطاء المعرفي الإنساني كله واختيار ما يراه حقاً.

ومن المؤسف أنه لم تظهر أي مؤشرات- بعد على تقبل ذلك- ليس من «طالبان» وحدها، بل من حركات دينية مشاركة في السلطة ببعض الدول العربية والإسلامية، ولكن ثمة عناصر قليلة منها، خافتة الصوت، هي التي بدأت تتغير وتتحول... فهل تصبح تياراً تاريخياً فاعلاً؟

* مفكر من البحرين

back to top