الفنان عمران القيسي: اللوحة العراقيّة اليوم جزء من مقارعة الظلم

نشر في 14-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 14-12-2008 | 00:00

عمران القيسي فنان عراقي مقيم في لبنان منذ أَكثر من ربع قرن. اشتغل زمناً طويلاً على اللوحة الحروفية وطوّر مفاهيمها وصورها وحركيتها وأصواتها... نشر أخيراً كتاباً بعنوان: «الفن العراقي بعد سقوط بغداد» تحدث فيه عن كبار فناني العراق في منافي الدنيا من أميركا الى نيوزيلاندا، ومن أوروبا الشمالية الى الخليج.

يعتبر القيسي أن اللوحة العراقية الراهنة تدور في ردود الفعل، والفنان بحاجة الى استيعاب وفترة طويلة من الهدوء، موضحاً أن الحروفية انتعشت مع الوعي القومي وتراجعت مع انهزامه. وهو يؤمن باستمرار الحرفية كمنحى تعبيري ويعتقد أن الفنانين العراقيين سيصلون الى مرحلة ما بعد التجريد المساحي في الحرف...

اشتغلت فترة طويلة على ما نسميّه الحروفية العربية التي تحوّلت الى مفاتيح أساسية في لوحتك؟

منذ الستينات بدأنا في العراق بتأسيس الاتجاه الحروفي، وأذكر أن الفنان شاكر حسن آل سعيد أنزل أولى لوحاته الحروفية في ثاني مجموعة شعرية لي بعنوان: «الصمت لا يتعب الموتى»... وأذكر جيداً أن ذلك التيار توزّع الى اتجاهات عدّة: الاتجاه الاستلهامي الذي شكلّه آل سعيد، النصّي الذي مثّله بعض الفنانين السوريين، الريازي الذي قاده فنانون لبنانيون، الإشاري الذي شكلّه الفنان اللبناني الأصل سعيد. أ. عقل، الخطّي الذي سار فيه الفنان التونسي مهدوي... هذه الاتجاهات كلها دفعت بمجموعة من الفنانين السودانيين، قادها الفنان أحمد عبد العال، الى تأسيس «جماعة الواحد»، مازجة التصوّف بالتشكيل.

نزعة التصوّف والتشكيل، من خلال عربة الحروفية العربية. إلى أي مدى استطعت تجاوز هذه المرحلة الى أفق أكثر تطوراً في التفتيش التشكيلي؟

إنها من أخطر المراحل. فالعلاقة بين التصوّف والحروفية تمرّ عبر المتصوّف الكبير الحرّالي الذي قال إن الحروف هي «حوارات الله الناطقة». وقال الكرخي وهو متصوّف آخر: «إن ترديد الحرف بلا صوت يقرّبك من ذكر الله، أي حين تلفظ كلمة «يا هو» (يا هو الله)، وتكرر لفظ الكلمة، تتحوّل الى دويّ (هوووو). وهكذا يتحوّل الحرف من وضعه الإشاري (أي التقريري) الى هالته الصوتية.

في اللوحة يتحوّل الحرف من وضعه الخطي المقروء الى وضعه الإشاري إلى لون! الصوت يوازي اللون في اللوحة. وهكذا تأخذ اللوحة الحروفية بعدها الوجداني والضامر... بالنسبة الى شاكر حسن آل سعيد، في أيامه الأخيرة، تحوّلت اللوحة الى جدار محروق، الى خشب مثقوب، (ثقب الزمن) والى أصوات مضخمة، أما في بعض أعمالي فقد أمست اللوحة ضجيجاً.

كأنك في مراحلك الحديثة، غادرت الحروفية وأصبح فضاء لوحتك يميل الى إغراء وطرب لوني!

يلتقي الطرب بالحزن في لحظة واحدة. في الواقع، بقدر ما غنّينا بالحرف، تجاوزناه الى حالته اللونيّة ومن ثمّ الى حالته الصوتية ووصلنا الى ما بعد التجريد. بعد التجريد الغربي جاء جاكسون بولوك الذي رشّ الألوان اعتباطياً، وجاءت حالة الجسديين البريطانيين الذين مرَّغوا أجسامهم بالألوان وعفّروها على مساحات اللوحة. نحن كشرقيين توصّلنا الى الصوت المقيم فينا والمنطلق الى اللامنتهى.

هل تعتبر أنك بلغت مرحلة «ما بعد حداثوية»؟

أعتبر أن لا حدود للتطوّر. فإذا أخذنا روح العصر الذي نعيشه القائم على الثورة الثلاثية: B.C.Q

(Quantum Computer Biology) هذه الثورة تعني أن لا حدود لما نكتشفه. فما نكتشفه الآن يصبح بعد لحظة قديماً!! كذلك الحال في اللوحة.

بلغنا مرحلة ما بعد الحروفية، ثم ما بعد التجريد الصوتي للحرف، الى ما بعد التجريد اللوني بالحرف، وسنصل الى ما بعد التجريد المساحي في الحرف، وهذا لا يعني إلغاء كينونة اللوحة، بل تعزيزها بكينونات هي «ميكسدميديا» لمواد العصر كلها.

هل ارتبطت مراحلك الفنية بمسار محدّد، أم أن ثغرات اعترت تطوّرها، وحرّرت أعمالك من جاذبية البدء الحروفي؟

بدأت أعرض منذ 40 عاماً. حتى اليوم وفي كلّ لوحة، أستحضر ذلك البغدادي الأحمر الشعر، الذي يحب القمر والشمس والنخيل... أحوّل هذا «العمران» الى خيط رفيع. أمرّره في لوحاتي كافة. ثمة فنانون عراقيون هاجروا الى هولندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وأميركا، ولا تزال أعمالهم تُقرأ كلوحة فيها خيط عراقي، فكيف الحال بي أنا، فقد عشت ٢٢ عاماً في العراق ثم لجأت الى لبنان؟ و يمتاز البلدان بالوشم الذي لا يزول. في الواقع نحن أرواح ترسم، تبدع، وتوزّع أرواحها على المساحات الإبداعية شعراً وفكراً وفنًّا...

ماذا عن روح بغداد؟

أحار أحيانًا وأنا أتحدث عن مدينة طفولتي التي سكنتها سنوات طويلة، هل أتحدّث عن بغداد الضمير... بغداد الذاكرة، أم بغداد الوعي؟ في هذه المدينة التي لا يموت فيها الميت ولا يُطحن فيها الطحين... مدينة يتقاسمها اثنان: الوعي والغيبوبة. يتجسّد وعي بغداد بعلاقاتها الحميمة، و تتجسّد غيبوبتها بأحلام البغدادي المستحيلة...

لماذا هروب البغدادي، والحلم بأن يكون غير ذاته؟

يجب أن يكون البغدادي موضوعاً وليس ذاتاً. لأن الأخيرة تصغّره، تجعله طابوقًا (لُبنة) في بيتٍ كبير مبنيّ من آلاف الأحجار. بينما إذا صار موضوعاً، سيكون حضوراً متألقاً في هذه العمارة وبالتالي في هذه المدينة. لذلك إذا عشق يعتبر نفسه العاشق الأول في هذا الكون، واذا كتب يكتب من أعمق أعماق أحزانه، لأنه يدرك أن ما يوحّد الناس في عراقه هو الحزن وليس الفرح. خيط الحزن هو الذي يربط التاريخ العراقي منذ بابل التي سقطت على أيدي الحثييّن الى بابل الحديثة التي اغتالها الأميركيون.

العلاقة بين الغربة كشعور والغربة كواقع لم تتجسد إلا أخيراً عندما بدأ المثقف العراقي يهرب الى خارج العراق. وهذا الهروب ولّد عراقات: عراق الفنانين في هولندا المزدهر، عراق المثقفين العراقيين في إنكلترا، عراق الأطباء والعلماء والمفكرين في نيوزيلاندا، عراق العراقيين حاملي أعلام الحزن الأزلي قي أميركا... فكيف بالعراقي المقيم حامل التاريخ القديم وأحلام المستقبل المؤجّلة!

كيف تقرأ التأثير العميق لحضارة سومر الرافدينية في الفن العراقي القديم والحديث عموماً والمنحى التشكيلي المعاصر خصوصاً؟

عندما تأسست المدرسة البغدادية على يد روّادها (جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد) كان بيانها الأول يقول: «يجب أن نتطلع الى العالمية، لكن مع الاحتفاظ بخصائصنا المحلية التاريخية». وكانت نصيحة الفنانين الأوروبيين الذين جاؤوا الى بغداد للفنانين العراقيين الناشئين القادمين من باريس وروما ولندن أمثال جواد سليم وسواه: «أمامكم تراث هائل عميق، أمزجوا الحداثة بتلك الروح». لذلك نرى أن مواضيع الجيل الأول من الفنانين كانت تنبثق من «ألف ليلة وليلة» ومن أسطورة غلغامش وتاريخ سومر، فلا غرابة أن يعمد رجل له فضل على الإرث الآثاري العراقي هو طة باقر الى جمع الفنانين العراقيين للعمل في الآثار العراقية. غالبية الفنانين اشتغلت بالآثار. هذا الوعي بالتاريخ القديم، إضافة الى الثقافة الفنية والطفولة المشبعة بالقصص الشفهية لـ{ألف ليلة وليلة» والزير سالم، ناهيك عن مجالس الحكايات التي تقام خلال رمضان، ومآثر عنترة وسواه، ذلك كله شكّل لدى الفنان العراقي نوعاً من الرمزية موجودة اليوم في الباب الشرقي في بغداد. تبدأ من الأسطورة الشعبية، من الحصان الثائر، وتمرّ بالسجين السياسي، ويتخللها الحزن عبر المرأة التي تندب، ثم الملك الذي يدجّن الأُسود وتنتهي بالفلاح حارث الأرض المؤتمن على الغلال والمواسم.

يقال إن المدرسة البغدادية لم تبقَ على اتجاه واحد؟

صحيح. تفرّعت المدرسة الى فرعين: فرع الانطباعيين بقيادة الدروبي وفرع التعبيريين الذين بقوا مع جواد سليم وفائق حسن. بعد ذلك انبثق من هذه المدرسة تيار حروفي، مطلع السبعينات (1963ـ1964) ضم فنانين في مقدمهم شاكر حسن آل سعيد. لا بد هنا من التنويه بأعمال جميل حمّودي ود. قتيبة الشيخ نوري وغيرهما. لكن الحروفية توزعت بعد شاكر الى مدارس عدة في العالم العربي، وتحوّلت الى مدرسة انكسارية مع كمال بلاطة في سوريا عندما استعمل الحرف الكوفي ولوّن مساحاته. ثمّ برزت المدرسة السودانية، مع أحمد عبد العال وشبريت وكمالى، وهم من كبار التشكيليين الذين مزجوا التصوّف بالفن التشكيلي... ثم برز تيار نصّي، (التيار الريازي) الذي أخذ نقوش المنائر وحوّلها الى لوحة، ولعل الفنان اللبناني وجيه نحله يمثل هذا التيار النقشي. أشير هنا الى التيار الإشاري الذي حوّل الحرف في اللوحة الى إشارة، خصوصاً مع الفنان اللبناني

سعيد.أ. عقل. تحوّلت هذه المدارس الحروفية كلها الى المدرسة الاستلهامية، أي الى التجريد المطلق، فشاع استعمال الزجاج المكسور والأخشاب المهملة والحصى على مساحة اللوحة وكان رائد هذا المنحى الفنان العراقي الكبير شاكر حسن آل سعيد...

ماذا يبقى اليوم من هذه المدارس الحروفية؟

من المفارقات الغريبة أن تكون المدارس الحروفية ارتبطت بالوعي القومي وبالنهضة القومية. وعندما انكسرت الأمة وتوالت الهزائم، تراجعت الحروفية... لكن في المؤتمر الأخير الذي عقد في متحف «الشارقة» بعنوان «التواصل والاتصال ما بين الخطّي والحروفي»، وجدنا أن الحروفية عاشت وانتعشت.

في كتابك الصادر حديثًا «الفن العراقي بعد سقوط بغداد»، هل تعتبر أن فنًا عراقيًا ما «هجينًا» بدأ يظهر، أم أنها رحلة الى تراث الفن العراقي القديم، لعله في بعض سماته «ما بعد حداثي»؟

لا أقول فنًا هجينًا، إنه فن خطير ما دام في دائرة الفعل وحقيقي. الفنان العراقي اليوم وهو في منافيه، وفي منفاه الداخلي في قلب بغداد أيضًا، ينتج فنًا يقوم على منغّصات الحياة والحنين وعلى فكرة تحويل اللوحة الى جزء من المقارعة. لذلك، اللوحة العراقية التي تتشكل اليوم يفصلها خيط وهمي عن الحداثة. مثلا: بقيت التعبيرية الفلسطينية تدور في الوصفية الشاعرية لاسماعيل شمّوط وتمام الأكحل أكثر من 40 عاماً، حتى جاءت رمزية مصطفى الحلاّج، وهي رمزية غاضبة، اقتربت كثيرًا من السوريالية ومن السخرية أيضاً، لكن كلتا المدرستين لم تؤسسا ذلك الفن الفلسطيني المطلوب، كما أسسه الجيل التجريدي الجديد، سواء من خلال «الأعمال المفاهمية» أو تلك التي نراها في معارض البينالات.

أذكر مثلاً في «بينال الإسكندرية»، أن رسامة فلسطينية من رام الله من أسرة المالح، نالت جائزة لمشاركتها بلوحة مذهلة من كولاج قمصان ممزقة، مغمّسة بالدم! وفي «بينال الشارقة» قدّمت فنانة فلسطينية أخرى عملاً «مفاهميًا»، كناية عن زاوية مليئة بالبرتقال وفي كل برتقالة شفرة حلاقة، سمّته «برتقال حيفا»!

ردود الفعل أو الغضب اللاحق، يأتي متأخرًا، لكن المعانات الحقيقية لنتائج الهزيمة تنتج فنًا هائلاً بعد فترة هدوء واستيعاب ثقافي، ليخرج فنٌ بمستوى الهزيمة... لا يزال الفنان العراقي دون مستوى الهزيمة، لا يزال في دائرة الفعل. يعيش فنانون عراقيون كبار اليوم في الأردن أمثال محمد غني حكمت، وفي هولندا أمثال علي طالب وشفيق النّواب، وفي السويد وفي لندن وفي نيوزيلاندا وفي الخليج، وهم لا شك ينتجون فناً رائعاً، لكن هذا لا يلغي رأيي بأننا عموماً لا نزال في حالة ردّ فعل!

back to top