الأخلاقوية و الحضاروية والسياسة (2-2)

نشر في 11-12-2008
آخر تحديث 11-12-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح تنويعات الأخلاقوية والحضاروية المذكورة تلك خرافات وأساطير، عشناها وعايشناها طوال القرن العشرين وما انقضى من سنوات من قرننا هذا، والمنطق المشترك بينها جميعا هو تزويد النزاعات الناشئة بين الجماعات البشرية بأصول ثقافية ودينية وأخلاقية وحضارية، تجعلها نزاعات جوهرية وأبدية وممتنعة على التسوية، والوجه الآخر لهذه العملية هو التقليل من شأن أي فوراق داخل جماعتنا («الوحدة الوطنية») واعتبارها كلاً متجانساً متكافلاً متضامناً، موحداً ثقافياً وأخلاقياً وحضارياً «لولا بعض الخونة الطارئين...».

ولا يشتغل هذا المنطق على مستوى العلاقات بين الدول والكتل الدولية، بل كذلك على مستوى المجتمعات... في بلداننا مثلاً تجنح النزاعات الطائفية إلى انتحال لغة أخلاقية أو حضارية للتعبير عن نفسها، فالطائفة الفلانية هي الأخلاقية، والأخرى هي الحداثية، والثالثة هي العلمانية... وتأخذ الكلمات هنا معنى أكثف بكثير من معانيها المعتادة، «معان حضارية» تضفي على النزاعات تلك طابع صراع مطلق بين التقدم والتخلف أو الحضارة والهمجية أو الحداثة والبدائية (مفهومة دوماً كقيم مطلقة لا كمفاهيم تاريخية)، أو بين الإيمان والكفر. وفي مثل هذه الأجواء يجنح النقد السياسي نحو البحث عن المسؤولين أكثر من الأسباب، ويحل منطق التبرير «والتشرير» محل منطق التفسير السببي، ويجري تعريف المسؤولين تعريفا ماهوياً، أي كطوائف ينبع الشر من تكوينها ذاته.

بعبارة أخرى، يجري تفسير السياسة بالطوائف (مفهومة كهويات شريرة أو خيرة ثابتة) بدل تفسير الطائفية بالسياسة، أي بالمصالح والرهانات السياسية، وهنا تكون التحليلات العقلانية بلغة السياسة والمصلحة هامشية على العموم، بينما تنتشر تحليلات سياسية كاذبة، قد لا تتكلم على طوائف وأديان وحضارات، لكنها تصدر عن تصور صراعي مطلق، ولا تقبل أي تسويات وحلول وسط مع خصومها المفترضين. هذا لا يجعلها أقل طائفية، فإذا كانت الصراعات الطائفية والحضارية لا تقبل التسوية، فإن صراعات لا تقبل التسوية هي صراعات طائفية أو حضارية.

نساوي بين الطائفية والحضارية لأننا نعتبر صراع الحضارات صراعا طائفيا على الصعيد العالمي، والصراع الطائفي صراعاً حضارياً على مستوى الدول القائمة. أو لنقل إن صراع الحضارات هو حرب أهلية عالمية، والحروب الأهلية التي تعرفها مجتمعاتنا تستمر وتمتنع على التسوية بقدر ما تتشكل أطرافها في طوائف أو «جماعات حضارية» (بينما يمكن لحرب تعرّف أطرافها نفسها فيها بلغة السياسة أن تدوم وقتا أقل وتقبل التسوية).

والخلاصة أنه كلما نزعنا إلى التعبير عن الصراعات القائمة بين الجماعات البشرية بلغة الأخلاق أو الدين أو الثقافة أو الحضارة أسسنا لتعذر حلها، في حين أن من شأن تسييسها، أي تعريفها كصراعات نسبية مصلحية، أن تساعد على تسويتها وتقصير أمدها.

والخلاصة العامة التي نريد الوصول إليها تتصل باستقلال السياسة، فهناك فكرة شعبية عن ماكيافيلي بأنه يسوغ الوسائل مهما تكن لا أخلاقية بالغايات، وأن نسخة من كتابه «الأمير» موجودة تحت وسادة كل طاغية، غير أن ماكيافيلي أسس علم السياسة بفصله عن الدائرة الأخلاقية. السياسة تتطور كعلم وكفن بقدر ما تستقل عن غيرها، عن الأخلاق، كما عن الدين (العلمانية) وعن الاقتصاد وعن «الحضارة».

إذا ألحقنا السياسة بالدين على نحو ما يفعل الإسلاميون سيّسنا الدين، أي أدرجناه في ما هو مجال التنازع والمنافسة والصراع والمساومات، و«ديّنّا» السياسة، أي أضفينا عليها ما يفترض أن يتسم به الدين من ثبات وقداسة، وهذا يفسد الدين مرة بأن يجعله مجالا للتلاعب، ويفسد السياسة مرة بأن يسبغ على السياسيين هالة دينية تعفيهم من المسؤولية أمام نظرائهم المحكومين. ويسمى المذهب السياسي المبني على الإسلام بحق الإسلاموية، فهو نسبة من الدرجة الثانية، أي لا إلى الإسلام بل بالأحرى إلى الإسلامية والإسلاميين (وليس المسلمين)، أعني بعد إضفاء صفة مذهبية مغلقة على الإسلام تكاد تقصي أكثرية المسلمين بالذات.

ومن جهتها، كانت الشيوعية السوفييتية وما في حكمها من تجارب قد خلطت بين الأولوية التحليلية المفترضة للاقتصاد كمحدد للسياسة والأولوية العملية التي لا يمكن إلا أن تكون للسياسة، فكانت النتيجة اقتصادوية و«حتموية» في مجال النظرية، وإرادوية في مجال العمل بسبب غياب مفهوم للسياسة. والسياسة التي كفت عن التطور بفعل إنكار تميزها واستقلالها بحيز خاص بها أخذت في البلدان الشيوعية طابعا فوقيا وأوامريا، والأصل في ذلك هو رد المجتمع إلى الاقتصاد، وإنكار استقلاله ومبادرته الذاتية وصفته السياسية الجوهرية، فلا مجال تاليا لتحريكه وتنظيمه إلا من خارجه، من قبل الطليعة أو الحزب الذي يحتكر العلم ويعرف وحده اتجاه التاريخ.

ولما كانت الحضاروية والأخلاقوية الاقتصادوية والإسلاموية صيغا متنوعة لإلحاق السياسة بشيء غيرها، أو إنكار استقلالها بحيز وأدوات ومناهج نظرية وعملية خاصة بها، فليس من المستغرب ألا تقبل الصراعات التي تطلقها تلك المذاهب حلولا سياسية. أي عبر التفاوض والمساومات والتسويات والتنازلات المتبادلة والحلول الوسط.

ألا تبدو السياسة هشة بالغة الهشاشة في هذا التحليل، مهددة في كل لحظة باجتياح مجالها من قبل نزعات وتشكيلات اجتماعية أخرى؟ إنها كذلك بالفعل. ذلك أن في مفهوم السياسة المستخدم هنا بعد قيمي يجعلها تعبيرا عن عقلانية الأفراد والجماعات وعدالتهم. السياسة بهذا المعنى رهان أكثر مما هي واقع، رهان على تغلب العقلاني في الإنسان على اللاعقلاني، لكنه رهان جدير بأن يضطلع به.

* كاتب سوري

back to top