العنف وأشكاله

نشر في 27-11-2008
آخر تحديث 27-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان قبل أعوام قليلة كان العنف في الشارع المصري عنفاً كلامياً نتندر به ونضحك منه، فقد كان لا يتجاوز السخرية والهجاء والصياح والتهديد إلى التشابك الدامي واستخدام الأسلحة، وبسبب نشأتي في الريف وعملي لسنوات عديدة في صيدليات القرى والأحياء الشعبية في القاهرة عايشت ذلك العنف الكلامي واعتدته، بل كنت أحيانا أستمتع ببعض جوانبه الفنية، وبقدرات بعضهم على الإبداع وتوظيف المجاز، والتحليق بعباراتهم الجارحة التي كانت تلجم الخصوم، وتجبرهم على الفرار من ساحة المعركة الكلامية.

وقد كانوا يتحدثون عن أحدهم قائلين «لسانه مبرد» أي يكشط ويجرح ويفضح، أو «لسانه حية» أي يرش سُماً أو «لسانه كرباج» أي سوط يجلد الناس به، وكانت هذه المجازات كافية لرسم الملامح وتحذير الآخرين، وقد كان بعضهم في القرى والأحياء الشعبية يستأجر أو يستعين بصاحب هذا اللسان المتفرد لردع مناوئيه وإرهابهم، الأمر الذي يذكرنا بشعراء الهجاء الذين اتخذوا من الهجاء حرفة لهم ومصدراً لرزقهم، وبالخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي حبس الحطيئة، ثم أطلقه وخيّره بين الكف عن هجاء الناس أو قطع لسانه، فكانت عبارة الشاعر الشهيرة «يموت عيالي جوعاً يا أمير المؤمنين» التي دفعت الخليفة إلى منحه راتبا شهريا مقابل الكف عن الهجاء وابتزاز الناس.

هذا العنف الكلامي الذي عرفناه وعايشناه في شوارعنا وتراثنا وأدبنا وفي مجازات رجل الشارع الغاضب وإبداعاته توارى في الأعوام الأخيرة، مفسحا المجال لعنف آخر أسود وحارق ودموي وقادر على إغواء الجميع: المواطن الأمي والأستاذ الجامعي والطفل والمرأة... العاطل الفقير والملياردير، ومن يتابع ما تنشره صحفنا من حوادث وجرائم سيدهشه ذلك التحول الهائل الذي بدل المجتمع، وأطاح بالكثير من قناعاته وأعمدته وأطره المعرفية والسلوكية، وسيشعره أنه أمام مجتمع تائه ومغترب عن ذاته وتراثه وقيمه... أضناه التفكك واليأس والاستبداد والخوف من المستقبل... مجتمع يمارس فيه بعض المدرسين العنف الأسود على تلاميذهم في المدارس وتشيع فيه الجرائم الأسرية والتحرش الجنسي الجماعي والتعذيب في أقسام الشرطة، وجرائم القتل والخطف والاغتصاب والانتحار والنهب، ويحظى فيه البلطجي بمكانة يحسد عليها، فهو يد القادر والثري ورجل الأعمال والمليونير التي تبطش وترهب وتقتل وتهدر حقوق الآخرين، وهو أيضا حارس الجشع ومقنن النهب والابتزاز وكل أشكال الفساد الأخرى.

هذا العنف الدموي الجديد والغريب على مجتمعنا هو الابن الشرعي للتحول السياسي والاقتصادي العشوائي في ربع القرن الأخير الذي رفع راية الخصخصة ومحاباة الأثرياء والأقوياء، معلنا في الوقت نفسه الانسحاب التدريجي للدولة من حياة رجل الشارع الذي وجد نفسه فجأة وحيدا ومهددا، وعليه أن يواجه الواقع الجديد بقدراته الذاتية، وأن يغير الكثير من القناعات والمفاهيم والأطر السلوكية والأخلاقية التي ألفها.

فالطيبة أصبحت سذاجة، والمسالمة ضعفا، والقناعة بابا مفتوحا على العوز والفقر، والرشوة إكرامية وحقا لطالبها، والغنى وطناً يظلل ويحمي، ووضع اليد على ممتلكات الآخرين شطارة وفهماً لقوانين الواقع الجديد... وأشير هنا إلى ما نشرته جريدة «الأهالي» في عددها الصادر بتاريخ 19نوفمبر تحت عنوان «لماذا هذا الصمت المريب على التجريف؟» وجاء فيه: «منذ أكثر من ثلاثة أسابيع نشرت «الأهالي» خبراً حول قيام صهر جمال مبارك بتجريف آلاف الأفدنة الزراعية بمنطقة «تل العيسى» جنوب طريق الإسكندرية-مطروح»، وتابعت الجريدة النشر في الأعداد التالية بتفاصيل أكثر، وآخرها كان «مانشيت» عدد 12 نوفمبر الذي أشار إلى «أن صهر جمال مبارك يواصل التجريف ويرتكب جريمة يعاقب عليها القانون... والغريب أن التجريف يتم لاستخدام الطّفْلَة في تعلية أرض المنتجع السياحي لصهر جمال، والأغرب أن سيادته لا يملك هذه الأرض، وأن أصحابها قد حرروا أكثر من 47 محضرا بقسم الشرطة، بعدما صارت أرضهم مباحة ومستباحة. لماذا الصمت المريب إزاء جريمة تدمير أرض خضراء ومنتجة وإزاء التعدي على أراضي الآخرين؟».

في الماضي كانت عبارة «حد الله بيني وبين الحرام» أو شكلها المختصر «حد الله» على ألسنة الناس في شوارع المدن والقرى، وقد تكفل الواقع الجديد بمحو هذه العبارة فنسيها الناس، خصوصا بعد أن رأوا الكبار وكبار الكبار يعظمون الحرام، ويتخذونه قانونا للصعود والإثراء، ويوظفون البلطجة أحيانا والعنف الأسود لتحقيق أغراضهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top