الــدســـتــور خــــارج الـمـســـاومــة
إن كان قد نجح عدد من أعضاء مجلس الأمة وبعض العابثين بالشأن السياسي الداخلي في رسم صورة متشائمة و«كافرة» بالديمقراطية كمنهج سياسي، فإن واجب عُقلاء البلاد وأبنائها التصدي لتلك الدعوات الجامحة إلى ضرورة تعليق الدستور أو حتى إلغائه.
لقد مرت البلاد بتجربتين، يُملي الواجب، وتحتّم الأمانة علينا، أن نتّعظ من نتائجهما ونتعلم مما يترتب عنهما، التجربة الأولى هي حل مجلس 75 عام 1976 ووقف العمل بالدستور، والثانية بعد عقد من الزمان حين حُلّ مجلس 85 عام 1986 وعُلّق الدستور. وتبلورت بعد التجربتين حالات من التردي لأوضاع البلاد، وساد الفساد بديلا عن الاصلاح، وكانت الأموال العامة ومدخرات البلاد عُرضة للنهب والسطو، وتدهورت اقتصادات البلاد التي كانت تُبنى على اغراض سياسية، القصد منها إلهاء الناس وإغراؤهم بالمال أو إشغالهم به. تجربتان نمت في حضنهما هيمنة الدولة الأمنية وانحسرت هوامش العدالة، ووصلت الأمور الى ذروتها في مواجهات بين أبناء البلد وأجهزتها الأمنية التي سيطرت على الصحافة وانتهكت الحريات. تجربتان ثبُت فيهما أن الاحوال تردت في غياب الدستور أكثر مما كانت عليه من تردٍّ في اثناء العمل به. الآن يخرج علينا بعض الذين لا يقلقهم مستقبل البلاد كثيرا أو لا يحسبون له حسابا، ويدعون الى تعليق العمل بالدستور متجاهلين دروس الماضي، غير عابئين بمتغيرات الحاضر وتداخل العالم الذي نحن جزء صغير منه، قد لا نؤثر فيه كثيرا، لكننا نتأثر به أكثر. الآن، تتعالى هذه الدعوات ونحن في محيط خارجي أكثر تعقيدا وضمن جغرافيا سياسية حرجة وحساسة، وضمن تنام ٍلوعي الناس بمعنى الفراغ السياسي وغياب دولة المؤسسات التي يحفظها الدستور ويؤمّن سلامتها، تتعالى هذه الاصوات غير مدركة تبعات ما تدعو اليه، وكل رهانها ان الناس «ضجت»، و«ملت»، وهو نفس الرهان الذي بُنيت عليه قرارات 1976 و1986 حتى وصلت الامور حينئذ الى حد يكون للشارع دور فيه، وهو أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمم في حل مشاكلها. لسنا في معرض الدفاع عن مجلس الامة، لكننا في موقع المتمسكين بالعمل بالدستور، لقناعتنا بأنه المظلّة التي تحمي الجميع، ونحن مدركون ومقتنعون بأن بقاء المجلس أو حله، وبقاء الحكومة أو تغييرها، واختيار من يكون رئيسا للوزراء، تلك حقوق حصرية لصاحب السمو الأمير، وهي حقوق صاغها المشرعون بأن أُنيطت بسند الإمارة لأنه ولي الأمر، ولأنه المؤتمن على مصير الشعب والمسؤول أمام الله وأمام الأمة عن حماية مصالحها. بعد نصف قرن تقريبا، لم تنضج الممارسة الديمقراطية كما كان يتمنى الذين رسموها منهجاً، لكثرة العصي التي وضعت في عجلاتها، فلم يكن النضج بمستوى الطموح، وجاء النمو بطيئا، لكن كل هذا لا يبرر وأد التجربة. إن الذين لا يتّعظون من التجارب ومن ماضيهم ولا يتعلمون ان الدستور خارج المساومة ، لن يكونوا قادرين على حماية حاضرهم أو رسم مستقبله. الجريدة