الضحى والعَشِيْ

نشر في 17-11-2008
آخر تحديث 17-11-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم مع الفجر والعصر، والصباح والمساء، والليل والنهار، الضحى والعَشِيْ على التقابل، فقد ورد لفظ «الضحى» سبع مرات بخمسة معان: الأول القسم «وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى»، وهو قسم بالليل أيضا للتقابل بين بداية النهار ونهايته أو بداية النهار وبداية الليل، من الصباح إلى المساء أي طول الوقت. والله حاضر مع النبي لم يتركه ردا على المشركين الذين ظنوا ذلك عندما تأخر نزول الوحي على الرسول، والوحي لا ينزل إلا عند الحاجة، والقسم أيضا بالضحى مقرونٌ بالشمس «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا»، فالضحى إشراق نور الشمس، وبعد أن يبدأ الليل يتلو القمر، فهو قسم بالنور، بمصباحي السماء، الشمس والقمر.

والله يقسم بمخلوقاته لعظمتها، فهو الذي يأتي بالليل ويخرج منه الضحى «وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا»، وهو المعنى الثاني في استعمالات اللفظ. والمعنى الثالث موعد اللقاء في أول النهار «قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحى»، وهو الموعد الذي حدده فرعون لمواجهة موسى بالسحرة لإثبات أنه ليس نبيا ولا يقدر على ما يقدر عليه سحرة فرعون من إتيان بالمعجزات.

وفي المعنى الرابع يتم الانتقال من الحدث الأصغر إلى الحدث الأكبر، من موعد البشر إلى موعد الله يوم الحشر الذي قد يأتي بغتة في الضحى والناس لاهية تلعب «أوَأَمِنَ أهْلُ الْقُرَى أنْ يَأتِيَهُمْ بَأسُنَا ضُحى وَهُمْ يَلْعَبُونَ»، فوظيفة الحشر الإحساس بالزمان وتوقع الأحداث فيه، فإذا وقع فإنه يقع بغتة، ولا يشعر الإنسان أنه عاش إلا نهارا أو مساء، ضحى أو عشية «كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أوْ ضُحَاهَا»، والخلود في الجنة لا ظمأ فيه ولا ضحى، أي لا عطش ولا حر «وَأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى» فالخلود ري دائم.

وفي المعاني التداولية يعني الضحى الإشراق بعد ظهور الشمس وبداية الصباح وأول النهار، وهي مرحلة من مراحل النور بعد الظلام، من الفجر إلى الصباح إلى الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء والمساء، وهى مواعيد الصلاة. وهو نفس الاشتقاق الذي منه لفظ «ضحّى» و«ضحية» أي الفداء وقت الضحى في عيد الأضحى، و«أضحى» في النحو فعل مع «أمسى» و«أصبح» وهي أفعال تفيد التغير والتحول ضد الاتهام الشائع للإسلام بأنه ثقافة الثبات والسكون مع الثناء على الغرب بأنه ثقافة التحول والحركة.

وقد ورد لفظ «العَشِيْ» في عدة صياغات: «العشاء» و«العشي» و«عشية» بخمسة معان كذلك: الأول الموعد في الزمان، ففترات الزمان عبر النهار من الصباح إلى المساء مواعيد للعمل «وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ»، فالعمل بالنهار وحصيلته سلبا أم إيجابا بالليل، وقد عرضت على داود الجياد بالعشي رمزا للقتال الليلي «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ»، وسُخرت له الجبال يسبحن معه من الشروق إلى الغروب «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ»، والله له الحمد في السموات والأرض، في الصباح وفي المساء «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ». والثاني موعد الصلاة «وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ»، وهي آخر صلاة بالنهار بعدها تبدأ الراحة والسكينة والتجرد عن الملابس للاستجمام. والثالث في مقابل الإبكار أي البداية في مقابل النهاية «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ»، فالإبكار بداية النهار أو نهاية الليل، كما أنه وقت الذكر والتسبيح، هو أيضا وقت الاستغفار «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ»، والإبكار مثل البكرة، الإبكار فعل ذاتي، والبكرة وقت موضوعي «فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا»، وجزاء لذلك ينالون الجنة التي لهم فيها رزقهم من الصباح إلى المساء «لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا». والرابع في مقابل الغد أي صبيحة اليوم التالي، بداية الليل ونهايته لدعاء الله «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ»، وهم في حاجة إلى صبر معهم لأنهم ينتظرون الآجل دون العاجل «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ»، وقد يحدث النقيض لمن لا يؤمن بالله ولا يدعوه أو يسبح له أو يذكره. إذ يُعرض على النار ذهابا وإيابا من النهار إلى المساء ومن المساء إلى النهار «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّا وَعَشِيّا».

والخامس اللحظة المباغتة التى لا يعيها الإنسان إذا كانت في الصباح أو في المساء، في الضحى أم في العشي لأنه لاهٍ عن الزمان غير واعٍ به «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا».

ولا تخرج المعاني التداولية في الحياة اليومية عن هذه المعاني الخمسة، الموعد في «أجيلك في العشية»، والطعام في «موعد على العشاء»، وفي الصلاة «صلاة العشاء»، ومن نفس اللفظ اشتق «عاش»، «يعيش»، «عيشا» أي الحياة. والخبز قوام الحياة، والزمان هو الحياة.

* كاتب ومفكر مصري

back to top