بريد بيروت

نشر في 03-11-2008
آخر تحديث 03-11-2008 | 00:00
 د. عمرو حمزاوي مازالت صراعات الفرقاء السياسيين تشغل المواطنين دوماً وتخيفهم أحياناً وتدفعهم للتحزب سنة وشيعة ودرزية ومسيحيين، إلا أن اللبنانيين يدركون ويثقون بقدرتهم على إدارة حياتهم بعيداً عن أزمات السياسة وصخب السياسيين.

هو عنوان عمل أدبي رائع للروائية اللبنانية حنان الشيخ تسرد فيه بعض وقائع حرب لبنان الأهلية وتداعياتها على مصائر البشر حياةً وموتاً وحباً. أتذكر حيوية سرد حنان الشيخ كثيراً هذه الأيام، وأنا أتجول في شوارع بيروت متنقلاً بين قسميها الشرقي والغربي وضاحيتها الجنوبية.

على الرغم من دمار حرب السبعينيات والثمانينيات الأهلية الطويلة والكلفة الباهظة للتوترات الداخلية المستمرة منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري 2005 وخروج القوات السورية وحرب إسرائيل-حزب الله 2006، لا تبدو العاصمة اللبنانية بمظهر المدينة البائسة المثقلة بأعباء ماضيها أو العاجزة عن العيش لوطأة مخاطر حاضرها، بل واقع الأمر أن كل ما في بيروت يخبر عن حب جارف للحياة والحرية والجمال وطاقة تفاؤلية منقطعة النظير، فمواقع البناء والتعمير تنتشر على امتداد أحياء بيروت المتنوعة وتشهد اليوم نشاطاً عظيماً تتنوع مصادره التمويلية بين استثمارات خليجية وأموال إيرانية وتحويلات المغتربين، وتراجع كساد العامين 2006 و2007 الاقتصادي نسبياً بعد موسم سياحي جيد هذا العام وارتفاع الاستثمارات الحكومية وتماسك القطاع المصرفي. كذلك تتسم الحياة الفنية والثقافية والأكاديمية بحيوية وحرية مبهرة، فلا يكاد يمر يوم دون افتتاح معرض للرسم أو بدء عرض مسرحي أو موسيقي جديد أو انعقاد ورش عمل لمناقشة قضايا لبنان والشرق الأوسط والعالم، وليست الضاحية بأغلبيتها الشيعية وبسيطرة «حزب الله» عليها مستثناة من هذه القاعدة، وإن اختلفت فيها طبيعة النشاط الفني والثقافي عن المعروض والمتاح في بيروت الشرقية بأغلبيتها المسيحية وفي بيروت الغربية بتركيبتها السكانية المختلطة.

نعم مازالت صراعات الفرقاء السياسيين تشغل المواطنين دوماً وتخيفهم أحياناً وتدفعهم للتحزب سنة وشيعة ودرزية ومسيحيين، إلا أن اللبنانيين يدركون ويثقون بقدرتهم على إدارة حياتهم بعيداً عن أزمات السياسة وصخب السياسيين. وكيف لا ونحن هنا أمام مجتمع شهد أعوام 2006 و2007 و2008 غياب السلطة الرئاسية بعد انتهاء مدة الرئيس السابق إميل لحود وقبل انتخاب الرئيس الحالي ميشيل سليمان. وتعطلت خلال نفس الفترة حكومته على وقع خلافات بين تيار 14 آذار الجامع لقوى سنية ومسيحية وتيار 8 آذار بمكونيه الرئيسيين «حزب الله» والتيار الوطني الحر لميشيل عون، ولم يتمكن برلمانه من ممارسة مهماته التشريعية لاستحالة انعقاد جلساته بصورة دورية. ومع كل ذلك، أو بالأحرى رغماً عن كل ذلك، استمرت حياة اللبنانيين دون شلل في المرافق العامة الأساسية كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية أو توقف في الإنتاج الفني والثقافي.

أهل بيروت يذوبون عشقاً في حب مدينتهم ويلقنون الغرباء من العرب والعجم عشقها وحبها للحياة والحرية والجمال، وهم في كل ذلك يتمتعون بقدرات إقناعية استثنائية وجاذبية خاصة لا تترك للغريب من اختيار سوى الانجراف في نفس التيار.

* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن

back to top