هويّة لبنان الوطنيّة... خصوصيّة والتباس!

نشر في 06-02-2009 | 00:00
آخر تحديث 06-02-2009 | 00:00
No Image Caption

خمسة وستون عامًا مرّت على استقلال لبنان وما زال هذا البلد يبحث عن هويته الوطنية من خلال إشكالياتها الطائفية. في سنوات الخصب، كان الحكم يتمتع برغد العيش ولم يأبه لقصور نظامه الطائفي عن التطوّر واستمرار النموّ غير المتوازن في مناطقه، ولم يقم عند الضرورة بمحاسبة المسؤولين على ممارساتهم المرتكزة على العصبيات والزبائنية والفساد، ولا ساءل الفاعلين الذين استغلوا الحالة الطائفية لمآربهم المحليّة أو الإقليمية والدولية.

انطلاقًا من هذا الوضع، أقدم بعض الباحثين على معالجة وهن الدولة اللبنانيّة وضعف الوحدة الوطنية والأزمات المتعاقبة على البلد وخصوصاً اندلاع الحرب عام ١٩٧٥. وقد آثر الدكتور صلاح أبو جودة استعراض وجهات نظر هؤلاء الباحثين في مجتمع غير متجانس طائفيًا وثقافيًا، بالإضافة الى المتغيرات الطارئة إقليميًا والتدخلات الخارجية التي تؤثر سلبًا في عملية تطوّر المجتمع اللبناني ونظام لبنان السياسي.

لكن هذه القراءة على تأثيرها وموضوعيتها لم تفِ بالمراد، ورغب المؤلف في إثارة موضوع الهوية الوطنية بصفتها عائقًا أساسيًا في وجه بنيان وحدة وطنية، فأصدر عن «دار المشرق» كتابه «هوية لبنان الوطنية».

يحاول المؤلف في دراسته فهم إشكاليات الهوية الوطنية اللبنانية التي لا يمكن إدراكها إدراكًا موضوعيًا إلا من خلال تجلياتها التاريخية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخلفية الدينية والثقافية الطائفية.

في هذا السياق، يتداخل أمران اثنان تداخلاً فريدًا ومعقّدًا ينتجان في الوقت نفسه خصوصية لبنان والتباس هويته الوطنية، وهما نشأة الدولة وتطوّرها، وتطور الاتجاهات الوطنية لدى الطوائف المختلفة ثقافيًا ودينيًا بعضها عن بعض. لذا، فإنّ تكوين الهوية الوطنية المرجوّة لا يتوقف حسب رأي المؤلف، على إمكان تطوير النظام وحسب، بل على تحوّل في الفكر الديني السياسي.

كي يحقق المؤلف هذا الهدف، عاد إلى مجموعة العوامل المشتركة التي كرّسها الزمن وأضفى عليها رمزية مقدسة، والى كل ما يؤلف ذاكرة مشتركة تولّد قيمًا ثابتة وخيرًا عامًّا وتثير حمية الانتماء الى الوطن، علمًا بأن اللبنانيين لم يتوصّلوا بعد الى إرساء معالم كافية وواضحة تؤسس لمفهوم هوية وطنية جامعة.

في القسم الأوّل يرجع المؤلف الى حقبة التعايش الدرزي الماروني في ظل حكم الأمير فخر الدين المعني الثاني (١٥٩٠ـ ١٦٣٥) على ما عرف رسميًا آنذاك باسم «جبل الدروز» أو «جبل الشوف» وانفتاحه على الغرب. وقد أصبحت الإمارة ملجأ جماعات دينية مختلفة تطورت بطريقة غير متساوية على أسس طائفية.

تجاذبات

ومع استحالة حياد الجبل تجاه التجاذبات الإقليمية والدولية وصعوبة انتهاج سياسة خارجية لحفظ سلام الجبل واستقراره، وفي أعقاب انسحاب الجيش المصري من جبل لبنان وسوريا تميّز بحث الأطراف المحلية عن صيغة حكم بحذر متبادل. وشهد الوضع تدخل الحكومة العثمانية والقوى الأوروبية وتمّ انتقال لبنان من نظام القائمقاميتين الى نظام المتصرفية.

وأتت ولادة دولة لبنان الكبير، بعد الحرب العالمية الأولى، في ظروف إقليمية غير مستقرة اتّضح معها أن لا حياة للدولة الجديدة من دون تعاون مسيحي مسلم، وهذا الواقع وضع المجموعتين الأساسيتين الموارنة والسنة وجهًا لوجه.

بدا التعاون بين الفئات اللبنانية مرتهنًا بموضوعين: موقف المسيحيين من القوى المنتدبة، وموقف المسلمين من المطالبة بوحدة سورية عربية تلغي الكيان اللبناني، غير أن التطورات التي حصلت في الثلاثينيات من القرن العشرين خلقت فرصة تسوية شجعت على إظهار الميثاق الوطني الذي جمع شمل اللبنانيين في ظلّ نظام ديمقراطي برلماني استلهم من دستور الجمهورية الثالثة الفرنسي، محافظًا في الوقت عينه على الترتيب الطائفي.

ينتقل المؤلف في القسم الثاني من الميثاق الوطني الى اتفاق الطائف الذي أخرج لبنان من حالة الحرب ولكنه لم يوفّر أساسًا كافيًا لبنيان متين وسلام دائم.

لم يحمل اتفاق الطائف العناصر التي تسمح له بالنجاح حيث عجز الميثاق، بل أنتج قصورًا مضاعفًا في آلية الحكم مع ظاهرة «الترويكا»، وتموضعًا طائفيًا ومذهبيًا متزايدًا، وارتباطًا لبنانيًا أكبر بالساحة الإقليمية، لذلك يمكن أن يصبح في كل خلاف مستجدّ عرضةً لتفاسير متعارضة ويفسح في المجال لأزمة جديدة.

في القسم الثالث والأخير من الكتاب، يستنتج المؤلف أن القوميين المسيحيين سعوا عشية عهد الانتداب، ومن ثم بعد الاستقلال، الى تطوير خطاب ديني انطلاقًا من التراث الوطني الماروني ذهب في اتجاه بلورة خصوصية لبنان الثقافية والسياسية والدينية.

ومن الناحية الإسلامية يمكن القول إن الفكر الوطني السني لا يزال منفتحًا على فكرة الوحدة العربية المتصلة بالإسلام، مع تمسّكه في الوقت عينه بلبنان الميثاقي. أما الفكر الوطني الشيعي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يبدو في حالة تراجع وهو يتمثل بخط الإمام موسى الصدر الذي يؤثر الاندماج في الكيان اللبناني، والقسم الآخر يحبّذ تعميمًا لنموذج الثورة الإسلامية في إيران لكنه يصطدم بالأمر الواقع اللبناني وهو لم يتوصل بعد الى بلورة رؤية خاصة. أما الدروز فهم أمينون على خطهم الوطني التقليدي المتمثل بالتمسك بخصوصية لبنان واستقلاله مع انفتاحه على ثقافة العالم العربي الإسلامي وقضاياه.

يختم المؤلف هذه الدراسة المنهجية الرصينة بأن تأسيس هوية وطنية واضحة يكمن في «الخروج عن تلك الأنماط الفكرية المتقابلة والمكرسة تاريخيًا، والتي لا تزال تتحكم في نظرات الطوائف الى لبنان».

back to top