قصف عشوائي

نشر في 16-01-2009
آخر تحديث 16-01-2009 | 00:00
 محمد سليمان افتتح محمود درويش كتابه الأخير «أثر الفراشة» الصادر عن دار نجيب الريس في يناير عام 2008 بقصيدته «البنت/الصرخة» وهي قصيدة بسيطة ومؤثرة يرسم بها الشاعر لوحة دامية لغزة المحاصرة وللقصف العشوائي الذي ينهال عليها وضحاياه البسطاء والأبرياء وتبدأ القصيدة بهذا المقطع:

«على شاطئ البحر بنت

وللبنت أهل وللأهل بيت

وللبيت نافذتان وباب

وفي البحر بارجة تتسلى

بصيد المشاة على شاطئ البحر

أربعة خمسة سبعة يسقطون على الرمل

والبنت تنجو قليلا

لأن يدا من ضباب

يدا ما إلهية أسعفتها فنادت: أبي

يا أبي قم لنرجع فالبحر ليس لأمثالنا

لم يجبها أبوها المسجى على ظله

في مهب الغياب»

بمفردات بسيطة اختارها درويش بمهارة وبتوظيف السرد والتفاصيل الصغيرة القادرة على الإيحاء ببراءة البنت وبساطة الأب وتواضع البيت «له نافذتان وباب»، يضع الشاعر هذا الإنسان البسيط والبريء والمتشبث بالحياة في مواجهة آلة القتل والتدمير «البارجة» التي تتسلى باصطياد المشاة، وقتل الأب الذي يسقط مستشهدا، والبنت الصغيرة التي لا تعي معنى الموت أو سببا له تحاول إنهاضه والعودة به إلى البيت الملاذ «فالبحر ليس لأمثالنا» بعد أن احتلته البوارج وآلات الإرهاب والدمار.

ويكثف الشاعر في المقطع الثاني شجنية اللوحة وأثرها عندما تكتشف البنت معنى الموت وتراكماته، فتتحول إلى صرخة احتجاج أبدية تهز المشاعر وتزلزل الضمير، لاسيما عندما تنضم إلى البارجة طائرة حربية لكي يتواصل العنف ويهدم بيت الأسرة المتواضع.

«دم في النخيل... دم في السحاب

يطير بها الصوت أعلى وأبعد من

شاطئ البحر... تصرخ في ليل برية

لا صدى للصدى

فتصير هي الصرخة الأبدية في خبر عاجل

عندما عادت الطائرات لتقصف بيتا

بنافذتين وباب».

***

على إحدى الشاشات الفضائية علق أحد البسطاء على ضراوة الحصار وبشاعته بعبارة بليغة عندما قال «الإسرئيليون سَكَّروا البحر» أي أغلقوه وأبعدوا الغزاويين عنه، وهو مصدر لرزق بعضهم، ورئة تعينهم على التشبث بالحياة، وباب لهم على العالم حين يغلقه القصف تتحول غزة إلى صندوق يضم مليونا ونصف المليون من المواطنين المعتقلين العاجزين عن ممارسة حقهم في الحياة.

حين يغيب الحد الفاصل بين المدني والعسكري تتجسد العشوائية وتتوهج المحارق وتتدافع أعمدة الدخان والغبار وشلالات الدم التي تلطخ الوجوه والأيدي، وكل قيم الثقافة والحضارة. والعدوان الإسرائيلي على غزة هو مثال صارخ على غياب، أو تغييب، هذا الحد المشار إليه... فالجيش الإسرائيلي يقصف عشوائيا من البر والبحر والجو مدنيين لا ملاذ لهم سوى منازلهم التي يفجرها أو يحرقها أو يأمرهم بإخلائها لكي يمحوها مستهينا بالقوانين، وباحتجاجات الملايين حول العالم الذين روعهم حجم التدمير والتخريب وبشاعة المجازر التي ستلتصق بالذاكرة، لتؤكد مرة أخرى عدوانية إسرائيل، وتقصي على ما أظن حكايات السلام وأغانيه.

***

بموازاة القصف والحرب المعلنة على غزة منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع هناك حرب طاحنة أخرى عربية عربية، وقصف عشوائي على صفحات الصحف وفي الفضائيات، اختلط فيه الحابل بالنابل والحماسي بالسياسي، وطالت قذائفه الجميع، فمن لم يُتهم بالخيانة والجبن والتواطؤ لحقت به تهم التطرف والعمى السياسي والانخلاع من الواقع ومستجدات العصر.

وطغى هذا القصف على أصوات الانفجارات في غزة وعلى نداءات المشردين والجرحى والمحاصرين، ودفعت الناس في شوارعنا إلى اليأس من حكامنا ونظمنا، وإلى استعارة ورفع صور بعض الزعماء الأجانب المساندين لحق الفلسطينيين في الحياة والتحرر من القصف والحصار والمحارق.

* كاتب وشاعر مصري

back to top