إنه يحتضر...

نشر في 07-05-2008
آخر تحديث 07-05-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي الإعلام كالأبدان فيه أمراض. وللأمراض أعراض، فكيف تعرف أنك أمام إعلام مريض؟

في تلفزيون الـ«بي بي سي»، وكذلك في شبكة الـ «سي إن إن»، يكون المراسل الذي ينقل الحدث من الموقع هو نجم القناة الذي يعرفه الجمهور، لأنه هو الصحافي الحقيقي الذي عنده أصل الخبر ويترقب الناس ما يقوله. لذا فإن مراسلة الـ«سي إن إن»، كريستيان أمانبور، التي تتحرك من لندن إلى طهران إلى لبنان، تتقاضى أعلى الأجور في المحطة. هذا تلفزيون صحي، المراسل فيه أهم من المذيع القابع في الاستوديو. أما إذا كان التلفزيون يتمحور حول مذيع الاستوديو الذي يتلاعب بالكلمات ويدهشنا بفصاحة اللسان، فهذا تلفزيون مريض.

إذا كان رئيس تحرير صحيفة أشهر من صحافييها، فأنت أيضاً أمام صحيفة مريضة. هل منكم مَن يعرف مَن هو رئيس تحرير الـ«نيويورك تايمز»؟ أو هل منكم من يتذكر اسم رئيس تحرير الـ«واشنطن بوست»؟ الجريدة هي الصحافي وليست رئيس التحرير. وهل سمع أحد منكم مثلاً، أن الرئيس الأميركي جورج بوش قد اصطحب رؤساء تحرير الصحف الأميركية في واحدة من زياراته إلى الشرق الأوسط أو إلى أي بقعة في العالم. سيأتي الرئيس بوش قريباً إلى المنطقة، فراقبوا مَن معه، ستجدون أنهم مراسلون متخصصون في تغطية الأحداث الخارجية يعملون لصحفهم. فإذا رأيت الرئيس يصطحب معه رؤساء التحرير في رحلاته الخارجية إلى بلد ما فتأكد من شيئين، أنك في بلد متخلف، وأنك أمام صحافة مريضة.

عندما يذهب الصحافيون مع الرئيس بوش أو مع رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون إلى رحلة خارجية، يدفع الصحافي ثمن تذكرته في الطائرة، تتفق الصحيفة مع مسؤول الإعلام في البيت الأبيض على سعر تذكرة الراكب وتدفعها من دخلها الخاص. إذا ما شهدت هذا في أي بلد فتأكد أنك أمام إعلام معافى وأنك أمام إعلام مستقل. أما إذا ركب الصحافي في طائرة الرئاسة «سفلقة» و«بلوشي»، فتأكد أنك أمام حالة إعلام يقبل الرشوة، ولو بتذكرة طائرة، أي إعلام مريض.

إذا لم تعرف مَن يكتب لك أو مَن يتحدث إليك في الصحيفة أو في التلفزيون، كأن يغدو أحدهم (بين قرار وضحاه)، مُنظّراً في الصحف أو نجماً على الشاشات من دون أن تعرف من أين أتى ولماذا؟ وما هي سيرته المهنية؟ وما هي إنجازاته الصحفية والفكرية؟ أي أن يهبط عليك الكُتّاب فجأة كما يهطل المطر في غير موسمه.. فأنت بلا شك أمام إعلام مريض.

يتحدث كثيرون منا عن سر شهرة كاتب الـ«نيويورك تايمز»، توماس فريدمان. فريدمان قبل أن يصبح كاتب عمود في «نيويورك تايمز»، «تمرمط» في شوارع بيروت كمراسل لعشرة أعوام، تحرك خلالها في بلدان الشرق الأوسط كلها تقريباً، وكتب كتاباً يعكس خبرته في تلك السنوات باسم «من بيروت إلى القدس». وقد حاز هذا الكتاب أرقى الجوائز الصحافية في أميركا، وهي جائزة بوليتزر. فريدمان قبل أن يصبح نجم الـ«نيويورك تايمز»، كانت أميركا تعرفه من خلال تقاريره من على أرض الشرق الأوسط. النجم في عرف الصحافة المهنية هو المراسل، وليس القابع في المكتب، وليس رئيس التحرير. من حق القارئ أن يعرف السيرة المهنية لمَن يكتب له أو مَن يحدثه ليطمئن على المصداقية ومدى الكفاءة. فإذا ظهرت عليك وجوه على الشاشة أو على صفحات الجرائد ولم تعرف من أين أتت؟ أو مَن هي؟ باختصار، إذا لم تعرف الـC.V لصحافيي التلفزيون والجرائد، فتأكد أنك أمام إعلام مريض.

في عالمنا العربي اليوم جوائز إعلامية، ومؤتمرات إعلامية، وندوات تتحدث عن دور الإعلام في تغيير السياسات، وأخرى تتحدث عن الإعلام الإلكتروني الجديد، ومناقشات حول الصحافة الشعبية... مؤتمرات وجوائز وندوات ومناقشات كل يوم وليلة، لكنها لا تمس جوهر المشاكل ولا تتحدث عن أمراض الإعلام، تحسس عليها من الخارج... أول الشفاء معرفة المرض. وليفهمنا فقط أبطال حفلات التكاذب الجماعية، كيف كانت لدعوة شابة للإضراب العام على «الفيس بوك» تأثيرها القوي في الشارع المصري الذي فاق بكثير، وبما لا يقارن، تأثير المقالات النارية لأعتى عتاة رؤساء التحرير.

دلالة أخيرة: إذا ما رأيت رئيس التحرير متصدراً الجريدة يكتب في «فدادين» من مساحاتها، يحرث أرضها، ويبذرها بكلام لا يمسه الباطل ولا يقربه الخطأ، فأنت أمام إعلام مريض. أما إذا ما أشادت الصحيفة بالمحافظ الفلاني، والوزير العلاني، ولواء الشرطة «الفلتكاني» فأنت أمام إعلام قد أنهكه المرض... بل إنه، يا صاحبي، إعلامٌ يحتضر.

 

* رئيس برنامج الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- IISS

back to top