الاستعلاء المتبادل (2-2)

نشر في 05-12-2008
آخر تحديث 05-12-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي كان معظم المثقفين العرب متفائلين بظاهرة الفضائيات والإعلام العربي العابر للحدود، على أنه سيؤصل لنوع جديد من العلاقات بين العرب، علاقات مبنية على المعرفة، كما ظن الكثيرون من أساتذة علم الاجتماع، أن حركة البشر بين البلدان العربية ستؤدي حتما إلى صياغة مشروع عروبي مبني على المعرفة المباشرة لا المعرفة السماعية المنقولة، فهل تم هذا فعلا؟ وهل كان التفاؤل في محله؟

الحقيقة، لو درسنا كيف تعاطى الإعلام مع حالة الطبيبين المصريين، لرأينا عكس ذلك. الإعلام في هذه الحالة تحديدا، كان مصدر تجهيل لا مصدر معرفة، فهو لم يقدم لنا تقريراً استقصائياً عما حدث، بمعنى ما هي السيرة المهنية الكاملة لهذين الطبيبين؟ هل هذه أول ممارسة عملية لهما لمهنة الطب؟ أم أنهما عملا قبل ذلك، في بلدهما الأصلي أو في أي مكان آخر؟ هل كان في تاريخهما السابق مؤشرات لارتكاب جرم كالذي ارتكباه، أو أي جرم أخلاقي أو مهني؟ أم أنها المرة الأولى؟ لم يشرح الإعلام للمشاهد أو للقارئ ما هو القضاء السعودي في هذه الحالة، وكم يختلف عن القانون المحلي للدولة التي أتى منها المهاجران. أسئلة مهنية كثيرة... لكن، للأسف، اتخذ الإعلام موقفا مسبقا، وقدم لنا وصلة من دغدغة المشاعر الوطنية، من دون أن يقدم معلومة واحدة عن الحالة محل النقاش. الإعلام العربي يحتاج زمنا طويلا ليصبح إعلاما مهنيا على غرار الإعلام الغربي، فلا تغرنّك أضواء الشاشات التي تشبه شاشات الغرب، شاشاتنا في كثير من الحالات تبني جدرانا للكراهية لا جدرانا للمعرفة. تضخم حجم العمالة العربية في الدول العربية، الخليجية خصوصا، مما أصبح يستدعي نقاشا جادا حولها، إذ يمكن للدول العربية فيما بينها، أو بالتعاون مع منظمات دولية، أن تنظم اجتماعات دورية لوزراء العمل في الدول العربية لمناقشة تعاقدات العمال المهاجرين وظروف حياتهم في المجتمعات الجديدة ومشاكل التأقلم. وأن تبذل الدولة المصدرة للعمالة جهدا لتعريف أبنائها بقوانين وثقافة المجتمع المضيف، خصوصاً إذا كان هناك عدد كبير من أبناء الدولة يهاجر للعمل في دولة معينة. الخطأ الأكبر أننا نصدق بأننا كعرب لا فوارق ثقافية بيننا. الحقيقة هي أن المجتمعات العربية متعددة ومتنوعة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وحتى لغوياً، وهذا لا يضيرها بل يغنيها، ولكن يجب استيعاب هذه الفوارق، وألا نصر جميعا على أنه لا داعي للمعرفة ولا داعي للتعارف، وأن بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان... ومن لا يصدق ذلك فعليه، فقط، الوقوف في المطارات العربية!

كثيرا ما أسأل في زياراتي للخليج: هل أنت تونسي أم جزائري؟ ويُفاجؤون عندما أقول لهم إنني مصري، ويجيء الرد: ولكنك لا تتكلم اللهجة المصرية! الحقيقة هي أنني أتكلم اللهجة المصرية الجنوبية، ولكن أصحابنا لا يعترفون إلا بلهجة التلفزيون، مصر بالنسبة إليهم هي القاهرة، أي أن الجماعة قد حذفوا نصف المجتمع المصري شمالا وجنوبا من المعادلة. المصريون أيضا يتبنون موقفا مشابها عندما يتحدثون إلى سعودي أو قطري أو كويتي تعلم في مدارس الغرب ويتحدث الإنكليزية كأهلها، ومتحضر في سلوكه وملبسه، يقولون «بس إنت شكلك مش خليجي زيهم؟»... ترى من هم الذين ليس هو مثلهم؟ وما هو شكل الخليجي؟

نحن شعوب مختلفة، بثقافات محلية مختلفة، ولهجات مختلفة، ونحيا في دول مختلفة بقوانين مختلفة... ولو أدركنا حقيقة وحجم الاختلاف بيننا، لبدأنا في صعود أولى درجات السلم الصحيح الصاعد نحو الوحدة العربية... الوحدة تخلقها المعرفة بالاختلاف والرغبة في التقارب والتعايش... وأرجع دائماً إلى الإعلام العربي، لأنني أدرك أهميته وخطورته، وأقول يجب أن يكون إعلامنا من أجل بناء جسور تواصل مبنية على المعرفة لا من أجل بناء جدران الجهل والكراهية.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top