مواطنة بلا ضفاف!!

نشر في 09-01-2009
آخر تحديث 09-01-2009 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان ثمة علاقة وثيقة أصبحت بين المواطنة والتنمية كما أن التنمية لم تعد بعيدة عن حقوق الإنسان، بل أصبحت منذ أواسط الثمانينات في الصدارة منها، خصوصاً وهي تتبع الجيل الثالث لحقوق الإنسان، بعد أن مثّل الجيل الأول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948 بخطوطه العريضة، لاسيما في ما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، وارتكز الجيل الثاني على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصا بعد صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 ودخولهما حيز التنفيذ العام 1976.

وفي الثمانينات أصبح الحق في التنمية عموداً فقرياً للتطور الدولي في ميدان حقوق الإنسان، لاسيما بصدور إعلان الحق في التنمية العام 1986، والتنمية حق جماعي إضافة إلى كونها حقاً فردياً، وقد أخذت الأمم المتحدة تربط على نحو شديد الوثوق بين التنمية والديمقراطية والحكم الصالح وحقوق الإنسان، وهو ما اعتمدته الدول والجماعة الدولية وإن كان بدرجات متفاوتة، إذ كلما ارتقت في سلّم التنمية البشرية والتحوّل الديمقراطي، زاد منسوب أو معدّل احترامها لحقوق الإنسان.

التنمية هي نقيض التخلف، وهذا الأخير لا يمكنه بناء وطن أو مواطن متطور، وعكس ذلك، فالتنمية الشاملة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة الى أساسها المدني والسياسي، تستطيع أن ترسي أساساً صحيحاً وصالحاً للفرد والمجتمع. وشمل الجيل الثالث لحقوق الإنسان إضافة الحق في التنمية، الحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من الثورة العلمية-التقنية، الأمر الذي مهد للجيل الرابع الذي اعتمد الديمقراطية وإقرار التعددية والتنوع الثقافي، أساساً متطوراً للفكرة الكونية لحقوق الإنسان.

وحتى العقدين الماضيين كان مفهوم التنمية يقسّم العالم إلى «مركز» و«أطراف»، وإلى عالم متقدم وآخر متخلّف، وبالتالي الى تابع ومتبوع، الأول الغني المنتج للتكنولوجيا والأفكار والأدب والفن والجمال والعمران، وأكبر مستهلك لها، والثاني الفقير والمُستلب حتى إن كان يملك موارد وثروات طبيعية كبرى، لكنه ظل متلقياً وغير قادر على الإنتاج، ويستهلك بعض ما يتم تصنيعه في العالم الأول عبر موارده الخام والأولية.

ورغم محاولات فك الارتباط بالخارج، لاسيما للدول النامية وتقليص قيود التبعية، إلاّ أن معظمها باءت بالفشل، سواءً على صعيد الدول الاشتراكية أو ما أطلقنا عليه بلدان التحرر الوطني، إذ لم تحشد لها المستلزمات الضرورية للنهوض وتحقيق التنمية المستقلة، لاسيما بفعل تقديم بعض الأهداف الاجتماعية والاقتصادية على حساب الحريات واحترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية، الأمر الذي أوصلها إلى طريق مسدود.

وفي وقت لاحق تطور مفهوم التنمية إلى تنمية شاملة ومستدامة، بمعنى الترابط والتكامل بين مختلف جوانبها، وعدم تقديم ما هو آني أو عاجل، على ما سواه، وهو الذي أدى إلى اختلالات بنيوية في الأنظمة الاشتراكية وما أطلق عليه اسم انظمة التحرر الوطني، وأدى إلى انهيارها ودفع بعض دعاة الليبرالية الجدد إلى التوّهم بأن طريق الظفر أصبح سالكاً، لاسيما بانكفاء قوى اليسار، ولاسيما الماركسي، حتى جاءت الأزمة المالية العالمية، لتكشف ليس فقط لا إنسانية النظام الرأسمالي وتوحش العولمة حسب، بل عن هشاشة الكثير من التراكيب والآليات.

وقد أضيف إلى مفهوم التنمية جانب مهم وهو العدالة في الإنتاج والتوازن في الاستهلاك، إضافة إلى الأبعاد الأخلاقية، بحيث أصبحت أكثر تشابكاً مع حاجات الإنسان وأهدافه وطموحاته، ولا تقتصر على إنسان دون آخر، بل هي لكل البشر ولكل إنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه أو لغته أو انحداره الاجتماعي.

إن التنمية الشاملة هي عملية تحوّل تاريخي متعدد الجوانب والأبعاد لاسيما مساسه بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي لا تقتصر على التطور التكنولوجي أو تطوير وسائل العيش وتوفير ما يسد حاجات الإنسان المادية الأساسية فحسب، فهذا يمثل جانباً واحداً من حاجات الإنسان، في حين أن الجوانب الأخرى تشمل حياة الإنسان والمجتمع وتغطي جميع المجالات والحقول، من توفير الرفاه الاقتصادي إلى الرفاه الاجتماعي والاستفادة من منجزات الثقافة والأدب والفنون، إلى تنمية الهياكل الأساسية للتحوّل الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، ولاسيما حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل وتمكينها لتأخذ دورها في المجتمع، إضافة الى حقوق الأقليات وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في إطار مواطنة كاملة وحقوق متساوية ودولة يحكمها القانون ويتم فيها فصل السلطات، خصوصاً استقلال القضاء، واختيار الحاكم من جانب الشعب وحق الأخير في استبداله إن لم يثبت جدارته.

إن التنمية التي نتحدث عنها بحاجة إلى مشاركة فاعلة من جانب الفرد والمجتمع، فالعلاقة وثيقة بين المشاركة والتنمية وبين الأخيرة ومبادئ المواطنة، ولعل مبادئ المواطنة في الدولة العصرية تقوم على ثلاثة أركان أساسية:

الركن الأول: المواطنة المدنية، أي الاعتراف بالأهلية القانونية لكل مواطن فرد في المجتمع وحقه أن يكون له كيان قانوني، كما هو حقه في التملك وحقه في أن يكون له جنسية ولا يمكن انتزاعها تعسفاً.

الركن الثاني: هو المواطنة السياسية، وتشمل الحقوق السياسية وبالدرجة الأساس حقه في المشاركة، وفي إدارة الشؤون العامة وصولاً إلى أعلى المناصب، مثل حقه في اختيار الحاكم واستبداله، وحقه في الانتخاب والترشح والترشيح، وفي تولي الوظائف العامة.

الركن الثالث: هو المواطنة الاقتصا-اجتماثقافية، أي المواطنة التي تقوم على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه تضمن الحق في الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي والسكن والتمتع بأوقات الراحة.

ولعل المواطنة لا تتوقف عند هذه الحدود فحسب، بل تمتد، وهذا أمر حيوي ومهم، إلى الحق في المشاركة والانتماء إلى الأحزاب والجمعيات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، الأمر الذي يشمل أيضاً تأكيد التعددية والتنوع وحق الاختلاف، مع احترام الرأي الآخر، واحترام الأملاك العامة والخاصة واحترام القوانين والحفاظ على البنية والتعايش المجتمعي.

إن المواطنة تطرح مسألة الهوية المشتركة الموحدة مع احترام التنوع، ولعل عناصر هذه الهوية هي: التاريخ المشترك والثقافة المشتركة، إضافة إلى ذلك، فالمواطنة هي مشروع غير متكامل طالما يتناول حقوق البشر التي هي غير نهائية، وهي في طور التكوين المستمر والبناء الدائم.

إن الهوية تقدم الانتماء الوطني على الانتماء الديني أو الطائفي، وإذا كان التركيز على المواطنة ضرورياً فلأنها تعتبر أحد الأعمدة الأساسية للنظريات الدستورية القانونية والسياسية المعاصرة، خصوصاً بتحديد الحقوق والواجبات، وأعتقد أن عالمنا العربي والإسلامي لا يمكنه الخروج من أزماته وتوتراته الداخلية، وإحداث التنمية المستدامة والإنسانية الشاملة، دون جدلية مناسبة بين المواطنة والتنمية بحيث يتم رد الاعتبار لها في ضوء فضاء إنساني بعيداً عن التصورات الآيديولوجية المسبقة أو النظريات المتعالية.

إن العلاقة السليمة بين مكونات المجتمع والدولة هو الخطوة الأولى للتحول الديمقراطي والتنموي، ومثل هذه الرابطة طوعية واختيارية وقانونية على أساس التعايش الحر الذي يستند إلى مبادئ المساواة والحرية والعدالة والمشاركة والهوية.

* باحث ومفكر عربي

back to top