الصبح والإصباح

نشر في 24-11-2008
آخر تحديث 24-11-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي ومن مفاهيم الزمان الجغرافي مع الفجر والضحى والعَشِي، الصبح والإصباح، ولا يوجد في مقابل المساء فعلٌ أو اسمٌ بل يوجد الأمس في مقابل اليوم والغد، أبعاد الزمان الثلاثة.

وقد ورد اللفظ في القرآن خمسا وأربعين مرة لأهميته، وورد فعلاً أكثر منه اسماً بنسبة ثلاثة أخماس إلى خمسين 28 إلى 17، للدلالة على التحول والتغير اللذين هما عكس الثبات والسكون، والفعل من أخوات كان مع «أمسى» و«صار» ضد شبهة ثبات الفكر العربي وسكون الفكر الإسلامي، وهو سبب تأخر المسلمين، في حين تقدم الغربيون الذين آثروا التحول على الثبات، والتغير على السكون، وكما عبر عن ذلك أدونيس في رسالته الشهيرة ذات الأربعة أجزاء «الثابت والمتحول».

والغريب ورود اللفظ بمعان سلبية أكثر منها بمعان إيجابية، أربعة أخماس في مقابل خُمس 36 إلى 9، فهل يعني ذلك أن التحول سلبي أكثر منه إيجابياً؟ أم أن التحول لو ترك لنفسه لكان سلباً ويحتاج إلى إرادة الإنسان للمقاومة وتحويله من سلب إلى إيجاب؟ قد يصيب التحول السلبي الثمر فيفسد «وَأحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أنْفَقَ فِيهَا»، وقد يصيب نبات الأرض فيصبح هشيما تذروه الرياح «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ»، وقد يصيب الجفاف الماء فلا ينبت زرع ولا ثمر «قُلْ أرَأيْتُمْ إِنْ أصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ»، وقد يهرب الماء إلى باطن الأرض فلا يمكن رفعه «أوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً»، وقد تجف الخضرة وتصفرّ وتصبح الجنة كالصريم «فَأصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ»، وقد يصيب الهلاك الحرث «فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ»، وقد يصيب الفساد حياة البشر وتمنع أرزاقهم «وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ»، وتهدم مساكنهم «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّهَا فَأصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ»، وقد يصيب الفساد حياة الإنسان، ضميره وفؤاده. يصاب بالخوف من القتل «فَأصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ»، ونتيجة لذلك ينتاب الإنسان من سوء أفعاله الندم لأنه لم يستطع حتى أن يواري سوءة أخيه بعد قتله «فَأوَارِيَ سَوْءَةَ أخِي فَأصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ»، وعقر اليهود الناقة عاصين ربهم فأصبحوا من النادمين «فَعَقَرُوهَا فَأصْبَحُوا نَادِمِينَ». بل يندم الإنسان على ما يسر في نفسه من شر «فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أسَرُّوا فِي أنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ»، ويؤدي سوء الأفعال إلى الخسارة «فَقَتَلَهُ فَأصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ». تحبط الأعمال، يكفر بالنعمة، وينهار البنيان والعمران وتأخذ الناس الرجفة والصيحة، «فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ».

وفي مقابل هذا التحول السلبي من جراء سوء الأفعال هناك تحول إيجابي لحسن الأفعال، فيهبط الماء وتخضر الأرض «ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً»، ويتحول الليل الهادئ بسكانه إلى صبح للنشاط والفعل «فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا»، والتحول من الكراهية إلى المحبة، ومن الفرقة إلى الجماعة، ومن التفكك إلى الترابط «فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»، والتحول من الهزيمة إلى النصر، ومن التقهقر إلى الظفر «فَأيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ». وهو نفس المعنى الاشتقاقي الذي أخذ منه المصباح، مفردا وجمعا، فنور الله مثل نور المصباح في المشكاة، والمشكاة في زجاجة، «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ»، وقد زينت السماء الدنيا بمصابيح «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ»، وهو نفس المعنى الاشتقاقي للصبح كموعد للقاء، سلبا لفعل السوء أو إيجابا لفعل الخير، فالسلب مثل «وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ»، وقد تحل به المصائب «إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أصَابَهُمْ إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ»، ويحل الجزاء في الصباح «فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ».

وقد يكون الصبح موعدا للثواب جزاء على حسن الأفعال عن قريب «ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ»، وهو عنوان كتاب الطاهر بن عاشور ليعلن فيه بزوغ فجر الإصلاح، لذلك يكون القسم به للتأكيد على سوء الأفعال «وَالصُّبْحِ إِذَا أسْفَرَ، إنَّهَا لَإحْدَى الْكُبَرِ»، أو على صدق الرسول «وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ، إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ». وهو وقت حضور الملائكة «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا»، أو النشاط والحركة.

وفي المعانى التداولية والاستعمالات الشعبية الصباح أقرب إلى الإيجاب منه إلى السلب، فالصبح هو الإشراق والبداية والاستفتاح والبراءة وحب الخير للناس، وهو السلام واللقاء ووقت الذهاب إلى الأعمال، ويُذكر في الأغاني الشعبية «يا صباح الخير، يا صباح النور» فإذا حدث مكروه فإنه يكون مشؤوماً بوجه غير صبوح، وهو اسم لفتاة «صباح» ولفتى «صبحي». ولا يكون المساء اسما، إنما الصباح والمساء موعد للتسبيح «فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ»، الصباح يجبّ المساء، فالصباح تحولٌ وإشراق، ونشاطٌ وحركة، وفرحٌ وتفاؤل، واستبشار وأمل.

* كاتب ومفكر مصري

back to top