إعلان دمشق وأزمة المعارضة السورية 4-5

نشر في 28-08-2008
آخر تحديث 28-08-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح «انتظام في تراث»

على أن من المفيد العودة إلى مسألة «التوقيت» ووضع أمرها في نصابه الحقيقي. استمر العمل شهورا حتى خرجت إلى النور في خريف 2005 وثيقة الإعلان والائتلاف الذي تأسس عليها. كان إصدار وثائق تعلن نيات الموقعين عليها أو تطرح مطالب عامة قد غدا تقليدا سوريا طوال السنوات الخمس السابقة لصدور وثيقة الإعلان. يذكر عموم المهتمين بالشأن العام في سورية «بيان الـ99» في خريف 2000، ومشروع وثيقة «أصدقاء المجتمع المدني» في الوقت نفسه تقريبا، ومشروع «حركة السلم الاجتماعي» الذي قدمه النائب السابق والصناعي (السابق أيضا) رياض سيف في فبراير (شباط) 2001، و«بيان الألف» الذي أصدره ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني (الاسم الذي استقرت عليه لجنة أصدقاء المجتمع المدني)، ووثيقة تدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام في بدايات عام 2003 بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق واحتلاله. وقد يكون «بيان المليون» منسيا اليوم، إلا أن «لجان الحريات الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان» (قبل انشقاقها) نشرت بيانا يدعو إلى إلغاء حالة الطوارئ في عام 2004، وأعلنت أنها تعتزم جمع مليون توقيع عليه (قيل إن نحو 6000 وقعوا عليه). هذا فضلا عن دعوات ومبادرات ووثائق أخرى نشرت في صحف أو ألقيت في محاضرات عامة، من أبرزها دعوة إلى المصالحة الوطنية قدمها رياض الترك في محاضرة عامة في أغسطس (آب) 2001، ومحاضرة بعنوان «نحو عقد وطني جديد» قدمها برهان غليون في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه.

ومعظم هذه الوثائق تعارض النظام سياسيا، و»تنشق» عليه فكريا وإيديولوجيا. ليس بالدرجة المطلوبة من الانشقاق دوما، نظرا لقوة التراث «الممانع» في سورية، التراث الذي يعرف الوطنية بدلالة الموقف من «الخارج». لكن الأكيد أن المتاع الإيديولوجي الممانع، «القومي» و»الشيوعي»، لا يصلح أساسا لفاعلية معارضة وديمقراطية في سورية، بل إنه يقود نسقيا إلى مواقع قريبة من النظام. وواقع الحال شاهد. وحده الانشقاق على ذلك المتاع يمكن أن يكون أرضية لمعارضة غير متهافتة ولثقافة سياسية ديمقراطية. هذه قضية تستحق نقاشا أوسع لا مجال له هنا. هنا أيضا نكتفي بالقول إننا نفتقر إلى تراث فكري انشقاقي. وهو ما ترك أثره على وثيقة «إعلان دمشق» ذاتها. ورغم أن عددا من فقراتها (تصور المجتمع السوري بخاصة..) مثلت «هرطقة» حقيقة حيال الثقافة السياسية المهيمنة في سورية، فإنها كانت تعبيرا عن حساسية مختلفة وعن نفور من خطاب سياسي أجوف أكثر مما هي مستندة إلى مرجعية فكرية متماسكة (نحتاج إلى وقت طويل لبنائها، فهي غير موجودة..). ولا ريب أن هذا الشرط، أعني افتقار بعض رؤى الإعلان إلى غطاء فكري، هو ما كان وراء وثيقة «توضيحات» تعيسة ألحقت بالإعلان بعد شهور قليلة على صدوره، تقيد أو تلغي منه كل ما فيه من حساسية جديدة وعبارات قلقة، وتعود إلى اللغة المأمونة التي يجري اجترارها منذ عقود. لا ريب أيضا أن هشاشة السند الانشقاقي الفكري للاعتراض السياسي في سورية كانت وراء انشقاق ائتلاف «إعلان دمشق» وعودة التمايزات الإيديولوجية إلى الإمساك بزمام السياسات العملية وتوجيهها. لقد كانت وثائق السنوات الخمس السابقة على الإعلان وجها من وجوه تماثل معارضين إلى العمل العام بعد غياب دام نحو عقدين من السنين بفعل السياسة الاستئصالية الصارمة التي اتبعها نظام الرئيس حافظ الأسد منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين. ومن وجوه التماثل أو التعافي الأخرى، ثمة «المنتديات» التي يلتقي فيها تجمع عشرات أو مئات قليلة من الأفراد في منازل خاصة مع التعبير عن الرأي بحرية نسبية (لعلها تشبه الديوانيات في الكويت...)؛ ومنها الكتابة النقدية في صحف عربية وفي مواقع إلكترونية؛ بل ومنها اعتصامات احتجاجية أمام «محكمة أمن الدولة العليا» في دمشق منذ عام 2001 وأمام «القصر العدلي» في دمشق أيضا في أعوام 2005 و2006 و2007 (انتهت دوما بتفريق المعتصمين بالقوة، وأحيانا اعتقال بعضهم..). ومنها كذلك عودة الحياة الحزبية، وعودة النشرات الحزبية المعارضة إلى الصدور. نريد القول إن وثيقة «إعلان دمشق» «انتظمت في تراث» مقرر. وهي لا تكاد تنفرد عن هذا التراث بمضمونها، ولعلها لم تبد في عيون المشتغلين عليها أنفسهم مختلفة جوهريا عما سبقها. فمطالب الوثيقة تستعيد مطالب الديمقراطيين السوريين المألوفة طول السنوات السابقة من رفع حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين والحريات العامة وسيادة القانون وما إليها. ما تنفرد به وثيقة الإعلان هو تزامن العمل عليها مع تصاعد الضغوط الدولية على النظام. لقد التقت وثيقة مسبوقة بوثائق من جنسها مع شرط سياسي متفرد، فاكتسبت أهمية متفردة انعكست على نبرتها وبعض صياغتها. بالخصوص في عبارات من نوع «مهمة تغيير إنقاذية»، و»عملية التغيير قد بدأت»، ودعوة البعثيين إلى المشاركة فيها، ورفض «الحلول الترقيعية».

يبقى أن نضيف أنه لا ريب أن «سياسة المشاعر» كان لها ضلع مهم في صوغ نبرة الإعلان وفي انضمام كثيرين إليه: كان النظام طوال ربع قرن قد آذى، وبقسوة وحقد، معارضين سياسيين لم تتجاوز معارضتهم في أي يوم الكلام. وكان لدى هؤلاء المبررات الإنسانية السوية كلها لرؤية النظام يتحول أو يزول، خصوصا أنهم طوال سنوات خمس أو أكثر ثابروا على الدعوة إلى الإصلاح والمصالحة الوطنية، مانحين المبادرة إلى النظام نفسه، دونما جدوى.

بيد أن المراجعات المتداولة الثالبة للإعلان لم تنصب على الاندفاع السياسي وراء تلك اللحظة الخاصة، وقد كان أكثر المراجعين شركاء فيها على كل حال، بل بدا كأنه يثأر من تاريخ المعارضة الديمقراطية ذاته، ويدرج مواقفه المستجدة في سجل قديم من الخصومة والنزاع. بدا أيضا أنه يمارس بالضبط ما يأخذه على الإعلان: يستند إلى اتجاه الريح الجديد كي يعوّم نفسه، أو ربما يبرئها أمام من قد يفيد التبرؤ أمامهم.

*كاتب سوري

back to top