أوباما و الهدية الروسية

نشر في 12-02-2009
آخر تحديث 12-02-2009 | 00:00
 د. مصطفى اللباد قدمت روسيا «هدية» قيمة للرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما في الشهر الأول من حكمه، إذ أعلنت موسكو موافقتها على أن تكون أراضيها ممراً للإمدادات اللوجستية إلى قيرغيزستان؛ ومن هناك إلى قوات حلف «الناتو» العاملة في أفغانستان. وتأتي «الهدية» الروسية متوافقة مع توجهات الإدارة الأميركية الجديدة الخاصة باستمرارها في الوجود داخل أفغانستان على المدى المنظور، بعد أن أعلن الرئيس الأميركي أوباما شخصياً تفضيله الانسحاب من العراق بأسرع وقت ممكن. حتى الآن تبدو «الهدية» الروسية قد جاءت في الوقت المناسب أميركياً، وهو ما قد يثير الكثير من علامات الاستفهام، خصوصاً أن روسيا تواجهت سياسياً مع الولايات المتحدة الأميركية قبل شهور مضت بسبب أزمة جورجيا. ربما يعتقد البعض أن مرور الإمدادات عبر روسيا إلى قوات «الناتو» في أفغانستان هي مسألة محض ثنائية تخص روسيا وواشنطن، ولكن المتفحص للإعلان الروسي سيجد وجوها أخرى لهذه «الهدية».

تواجه واشنطن مأزقاً كبيراً بسبب المواجهة الباكستانية-الهندية المحتدمة منذ شهور قليلة وحشد كلا البلدين لقوات عسكرية على الحدود المشتركة، وهذا أجبر باكستان على سحب قواتها البرية من حدودها مع أفغانستان ونقلها إلى الناحية الأخرى من الجغرافيا الباكستانية لتصطف في مواجهة الهند، وبالتالي صدق ما توقعناه قبل شهرين (راجع مقالنا هنا 18 ديسمبر 2008). على كل حال يجعل هذا الاصطفاف الباكستاني-الهندي الحدود الأفغانية-الباكستانية، خصوصاً في منطقة وزيرستان، مكشوفة أمام «حركة طالبان» الأفغانية والباكستانية، وكلاهما يعادي الوجود العسكري الأجنبي في أفغانستان. وبالتالي فالنتيجة ذات الأهمية الاستراتيجية هي أن طرق الإمدادات إلى قوات «الناتو» عبر أفغانستان قد أصبحت خطرة وغير آمنة. ربما توخت نيودلهي الوصول إلى هذه النتيجة عبر تصعيدها الدبلوماسي وحشد قواتها على الحدود، حتى تضطر باكستان لتفعل ما فعلت وبالتالي تفقد إسلام آباد أحد أوراق قوتها في العلاقات مع واشنطن، وتلين أكثر في مواجهة خصمها اللدود أي الهند.

تنبثق نتيجة فائقة الأهمية من الناحية الجيوبوليتيكية مما تقدم مفادها أن واشنطن يتحتم عليها أن تبحث عن طريق بديل لطريق باكستان، حتى يمكن توصيل الإمدادات إلى قوات «الناتو» العاملة في أفغانستان. وهنا يبرز طريق بحري-بري يمكنه تزويد قوات الحلف بالإمدادات وبأمان، وهو طريق البحر حتى ميناء شابهار الإيراني المطل على بحر العرب، ومن هناك بالشاحنات عبر الأراضي الإيرانية شمالاً حتى ولاية نيمروز الأفغانية، والواقعة على شبكة الطرق الأفغانية الرئيسية. وفي مقابل القبائل المعادية في منطقة وزيرستان تستطيع إيران ضمان تدفق هذه الإمدادات، وبالتالي عدم وقوع خسائر في صفوف القوات الأميركية في أفغانستان. ومع وجاهة هذا الاحتمال من الناحية الجغرافية والطبوغرافية أي التضاريسية، فإن التكلفة السياسية العالية لهذا الاحتمال سيكون لها تداعياتها المباشرة على العلاقات الأميركية-الإيرانية. وبدورها ستؤدي هذه التداعيات إلى تأثيرات على مجمل النظام الإقليمي الراهن، وصولاً إلى مصالح روسيا في المنطقة عموماً، وفي إيران خصوصاً لأن إيران لن تقدم لواشنطن هذه الخدمة بالمجان وإنما ضمن إطار أوسع للتفاهم.

على هذه الخلفية يمكن تفسير «الهدية» الروسية لواشنطن بالمرور عبر أراضيها ومن ثم إلى قيرغيزستان وصولاً إلى الشمال الأفغاني لإمداد قوات الناتو بالسلاح والغذاء، بحيث تقطع موسكو الطريق على تفاهم أميركي-إيراني، أو على الأقل تمنع إيران من استثمار هذه الورقة للضغط أكثر على إدارة أوباما ودفعه في أقرب وقت للجلوس إلى طاولة المفاوضات. روسيا قدمت «الهدية» ليس حباً في أوباما أو حتى كرهاً في إيران، ولكن حماية لمصالحها التي ستتضرر من جراء هكذا تفاهم. وبالمقابل فإن إيران الواعية لدروس المنطقة رفضت بأدب العرض الروسي بإنشاء «تكتل الدول المصدرة للغاز» يضم روسيا وإيران وقطر، على غرار «أوبك»، ويشكل 60 في المئة على الأقل من احتياطي الغاز الطبيعي في العالم. ويعود الرفض الإيراني إلى حقيقة أن هكذا تحالف سيكون بالأساس مفيداً لروسيا التي تخنق القارة الأوروبية بإمدادات الغاز راهناً، في حين أن إيران ستجعل الولايات المتحدة الأميركية تعاديها أكثر فأكثر؛ لأن الحوار معها لن يكون مجدياً من الناحية الاقتصادية، وإيران تريد أن تظل محتفظة بجاذبيتها السياسية والاقتصادية في العيون الأميركية.

أراد النظام العراقي السابق التأثير إيجاباً على بكين وموسكو وباريس لتستعمل حق النقض «الفيتو» لمصلحته في مواجهة واشنطن، فقام ببيعها بقليل من الحصافة الكثير من امتيازات التنقيب والاستكشاف في حقول النفط العراقية. وشاهد الجميع كيف أن «الفيتو» الروسي والصيني والفرنسي لم يمنع القوة العالمية الأعظم من شن الحرب بالنهاية؛ ربما لأنها لم تعد بعدها ترى أهمية للنظام العراقي السابق بعد أن باع مصادر جاذبيته لمنافسي أميركا الدوليين. إجمالاً يمكن وصف التحالف القائم بين روسيا وإيران بأنه مفيد لكلا الطرفين، ولكن أي تغيير راديكالي إيجابي في علاقة روسيا بأميركا سيجعل إيران خاسرة، مثلما أن التقارب الأميركي-الإيراني، إن حدث، سيجعل روسيا خاسرة أيضاً. تقدم «الهدية» الروسية لواشنطن درساً لكل من يريد الاستزادة من فن التحالف والمناورة الذي تتمتع به كل من موسكو وطهران، فالتحالف بين بلدين لا يعني تطابق المصالح الوطنية لكليهما!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة

back to top