هل يخفى القمر؟
في السنة الماضية كان لافتا الاختلاف حول هلال رمضان وتحديد موعد العيد، إذ بدا أن هناك مجموعة أعياد في العراق ولبنان وبعض البلدان الخليجية، ما دفع المفتي علي الأمين إلى اصدار كتاب «هل يخفى القمر؟» لدى جمعية «هيا بنا»، يقول في مقدمته: «لا خلاف بين أهل العلم في أن الشريعة الإسلامية ربطت بين بعض العبادات وبين بعض الظواهر الكونية، كارتباط عبادة الصوم الواجب في شهر رمضان ببعض حالات القمر، ابتداء وانتهاء، فجعلت بدء الصوم مرتبطا بثبوت هلال شهر رمضان، وانتهاءه مرتبطا بثبوت هلال شهر شوال الذي يعتبر أوله يوم عيد الفطر المبارك، وبما أن وجوب الصوم مرتبط بثبوت الهلال أساسا، المعتمد هو الرؤية التي تعتبر من أهم وسائل الإثبات الحسي للهلال، على أن المستند لاعتبار رؤية الهلال دليلا على ثبوت أول الشهر المبارك هو النص الديني الوارد عن النبي (ص): «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته». وقد وقع الكلام بين الفقهاء في دلالة هذا النص الديني وأمثاله مما أخذ فيه قيد الرؤية في ثبوت وجوب الصوم ابتداء وانتهاء».
يدور القمر حول الأرض مرة كل 29.5 يومًا تقريبًا كمتوسط، وأثناء دورانه هذا نراه بأطوار مختلفة. تشرق الشمس يوميًا من جهة الشرق صباحًا، وتغرب في جهة الغرب بعد حوالي 12 ساعة تقريبا، وكما أن الشمس تشرق وتغرب فالقمر أيضا يشرق ويغرب، لكنه لا يشرق دائمًا ليلا ويغرب نهارا كما يعتقد الكثيرون! تختلف البلدان الإسلامية في تحديد بدايات الأشهر الهجرية للأسباب التالية: تدعو بعض هذه البلدان المواطنين لتحري الهلال، فإذا جاء من يشهد برؤيته قبلت شهادته حتى لو دلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة أو غير ممكنة. في دول إسلامية أخرى ترد شهادة الشاهد إذا كانت رؤية الهلال مستحيلة، لكنها تقبلها حتى لو كانت غير ممكنة. هناك دول إسلامية لا تعتمد رؤية الهلال أصلا، بل تعتمد شروطاً فلكية معينة. كذلك تأخذ بعض الدول الإسلامية بمبدأ اتحاد المطالع، فإذا علمت أن إحدى الدول أعلنت ثبوت رؤية الهلال فإنها تتبعها فورا حتى من دون التأكد من صحة رؤية الهلال. في المقابل، تأخذ بعض الدول الإسلامية باختلاف المطالع، ولا تقبل رؤية الهلال إلا من داخل أراضيها.ما سلف ذكره هو بعض من الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى اختلاف الدول الإسلامية في تحديد بدايات الأشهر الهجرية، ويعزى بعض تلك الأسباب إلى الاختلافات الفقهية لكل جهة، ففي كل عام يتكرر السؤال نفسه وهو: «هل نتبع الحسابات الفلكية أم رؤية الهلال؟» ناقش الفقهاء وعلماء الفلك تلك المسألة، لكن في غالب الأحيان لم تناقَش بشكل واضح يبرز للقارئ بعض الحقائق الفلكية أو الفقهية المتعلقة برؤية الهلال. رأى بعض الفقهاء جواز الاعتماد على الحسابات الفلكية، ولكن كان لكل فقيه تصوّر معين لهذا الجواز، ونلخص ذلك بالتالي: أجاز بعض الفقهاء اعتماد الحساب الفلكي في النفي فحسب، بمعنى أنه إذا جاء من يشهد برؤية الهلال، ودلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة أو غير ممكنة، فإن تلك الشهادة ترد. من أشهر القائلين بهذا الرأي تقي الدين السبكي وهو من كبار فقهاء الشافعية في النصف الأول من القرن الثامن الهجري، ذكر في فتواه أن الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود، يقول: «لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظني لا يعارض القطعي، فضلا عن أن يُقَدم عليه». ذكر السبكي أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده، في أي قضـية من القضــايا، فإن رأى الحـس أو العـيان يكذبها ردهـا ولا كـرامة. يقول: «والبينـة شـرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسًا وعقلا وشرعًا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعًا على عدم الإمكان اسـتحال القول شرعًا، لاسـتحالة المشــهود به، والشرع لا يأتي بالمســتحيلات. أما شهادة الشهود فتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب»، ومن أبرز الذين أيدوا هذا الرأي من المتأخرين محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبد الله بن منيع. أجاز بعض الفقهاء اعتماد الحساب الفلكي في النفي والإثبات، فقد زاد مؤيدو هذا الرأي على أصحاب الرأي السابق أنه إذا دلت الحسابات الفلكية على وجود القمر بعد غروب الشمس بوضع يسمح برؤيته كهلال، فإنه يؤخذ بالحسابات الفلكية، ويكون اليوم التالي أول أيام الشهر الهجري من دون اشتراط رؤيته بالعين المجردة. لم يجز الفريق الآخر من الفقهاء استخدام الحساب الفلكي لا نفيا ولا إثباتا، فإذا جاء من يشهد برؤية الهلال قبلت شهادته، حتى إذا وجدت حسابات فلكية تدل على أن القمر لم يكن موجودا في السماء في ذلك الوقت. من القائلين بهذا الرأي الشيخ ابن باز، وقد يكون ذلك لاعتقاد أصحاب هذا الرأي أن الحسابات الفلكية غير دقيقة أو غير قطعية، أو لعدم التفريق بين الفلكي والمنجم، أو لكلا السببين.يقول الشيخ مصطفى الزرقا: «إني على يقين أن علماء سلفنا الأولين، الذين لم يقبلوا اعتماد الحساب الفلكي لو أنهم وُجدوا اليوم في عصرنا هذا، وشاهدوا ما وصل إليه علم الفلك من تطور وضبط مذهل لغيروا رأيهم، فإن الله أتاهم من سعة الأفق الفكري في فهم مقاصد الشريعة ما لم يؤت مثلَه أتباعُهم المتأخرون، فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟ ولعل قائلاً يقول: إن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية بلسان رسولها (ص) قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقوله : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإذا غمَّ عليكم فاقدروا له». وفي رواية ثابتة أيضًا: «فإن غُمَّ عليكم فأكلموا العدة ثلاثين». فجميع الروايات الواردة عن النبي (ص) في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد. وإن القدر أو التقدير عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر، معناه: إكمال الشهر القائم - شعبان أو رمضان- ثلاثين يومًا، فلا يحكم بأنه تسعة وعشرون إلا بالرؤية. وهذا من شؤون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدًا من دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة. هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم وسائله العلمية».حين افتى الشيخ الراحل عبدالله العلايلي في كتابه «اين الخطأ» (مجموعة قضايا دينية)، بوجوب اعتماد الحساب الفلكي في تحديد شهر رمضان، لاقى الكتاب قبولاً ورفضاً بين العلماء والمفكرين بين مادح أو قادح، سرعان ما سحبه العلايلي من المكتبات في الثمانينات من القرن الماضي، وفي بداية التسعينات أعادت دار الجديد طباعته، والمعروف أن الشيخ العلايلي كان يلقب بـ{الشيخ الاحمر» نظرا إلى مواقفه المغايرة عن السائد، فهو كان مفتي جبل لبنان وشارك في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي مع كمال جنبلاط وكان من دعاة الزواج المدني.لعل أبرز من ينتبه اليه الجمهور في لبنان في قضية الاختلاف في الهلال الرمضاني هو موقف السيد محمد حسين فضل الله الذي يعتمد الحساب الفلكي في تحديد اليوم الاول للصوم وموعد عيد الفطر السعيد، سئل السيد فضل الله عن الأسس الفكرية والدينية لنظريته حول رؤية الهلال، والتي أحدثت انقساماً كبيراً وحسمت في المقابل جدلاً كبيراً، أجاب: «انطلقت الفكرة من قاعدة تتصل بالنظام الكوني، فمسألة الشهر القمري ليست مسألة فقهية، لكنها مسألة فلكية تنطلق من مفردات النظام الكوني، فالشهر ينتهي بدخول القمر في المحاق ويبدأ بخروجه من المحاق وامتلاكه كمية من الضوء، بحيث يمكن بحسب طبيعة الأمور رؤيته إما بالعين المجردة أو بواسطة الأجهزة المقربة لذلك. أما الرؤية التي درج عليها الكثير من الفقهاء على أساس الحديث النبوي: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته»، فتلك مجرد وسيلة من وسائل العلم وليس لها موضوعية. لذلك فنحن عندما يبلغ الشهر ثلاثين يوماً من دون أن نراه، فإننا نحكم بالهلال. فالرؤية وسيلة من وسائل العلم، ومما يدل على ذلك من خلال النص، أن هناك فقرة قبل قوله: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، اليقين لا يدخل الشك»، «لا تعملوا بالشك ولكن اعملوا باليقين»، والرؤية هي إحدى وسائل اليقين. لذلك نقول إن مسألة الهلال هي ظاهرة فلكية كونية يرجع فيها إلى أهل الخبرة ولا يرجع بها إلى الفقهاء، وإذا كان أهل الخبرة بموقع الثقة، وكانت حساباتهم الفلكية بموقع الاطمئنان، فإننا نحكم بالهلال. لذلك فقد تحدثت عندما ثار الجدل قبل سنين وقلت بأننا نستطيع أن نحدد العيد في مدى 50 سنة من الآن». سئل: كيف السبيل للخروج من الخلافات حول ثبوت الهلال كل عام، خصوصاً في شهري رمضان وشوال؟ أجاب: «الحل هو في أن يخرج العلماء من هذا الفهم التقليدي للرؤية، وأن يدرسوا المسألة بدقة وبطريقة علمية، لئلا تأخذ المسألة أبعاداً سلبية، بحيث يقوم البعض بالشهادة برؤيته للهلال، فيما هو ما يزال في المحاق». لكن حسابات السيد فضل الله لا تناسب بعض أجنحة الطائفة الشيعية في لبنان، فثمة فريق يتبع «فتاوى» الشيخ عبد الامير قبلان وآخر يتبع فتاوى «حزب الله».اما السيد علي الأمين فيعتبر أن اعتماد العلم بمعنى القطع واليقين ليس محلا للكلام بين أهل العلم والتحقيق، فكلهم يعترفون بالعلم دليلا وحجة، وأن اليقين هو مرجع الأدلة والحجج في نفي شيء واثباته في شتى حقول الفكر والمعرفة. والذين برفضون اعتماد نتيجة المراصد الفلكية لا ينكرون حجية العلم بمعنى اليقين، ولا يرفضون الحداثة ولكنهم يشككون في إسباغ صفة العلم واليقين على النتائج المستفادة من تلك الرسائل الحسابية، خصوصا بعد وجود الاختلاف الكبير بين الخبراء بها، وعدم اتفاقهم على رأي موحد في النتائج التي يتوصلون اليها. وهذا يعني، برأي الامين، ان نتائج علم الفلك لم تصل الى درجة العلم واليقين على مستوى ولادة الهلال، كما هي الحال في المراصد التي تعنى بأحوال الطقس والتي تتراوح نتائجها بين الظن والاحتمال، وإن كان علم الفلك وصل على مستوى آخر الى درجة اليقين في بعض المباحث الفلكية. وعليه تبقى نتائج المراصد الفلكية بشأن الهلال والطقس في دائرة الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً.