اليمين واليسار
يبدو أن مزيجاً من الخوف إزاء الصعود السريع للإسلاميين، والتشكك في مدى جدية أحاديثهم عن التزام الإصلاح والديمقراطية، دفع بعض المعارضات الليبرالية واليسارية إلى تبني خيار الاحتماء بنخب الحكم القامعة للإسلاميين، بل وربما التحالف معها لضمان حد أدنى من الوجود في الحياة السياسية.لن يعثر من يطالع بانوراما الحياة السياسية العربية اليوم على حركة معارضة ليبرالية أو يسارية واحدة غير مأزومة. نعم تتفاوت الخبرات التاريخية بين المغرب والجزائر ومصر ولبنان والكويت واليمن، إلا أن ما يجمعها هو انحصار الصراع على السلطة بين نخب الحكم وقوى المعارضة الإسلامية.تحايل الإسلاميون على قمع نخب الحكم ببناء شبكات واسعة للفعل الدعوي والاجتماعي اخترقت الحياة السياسية، مستغلةً في هذا الصدد هوس العرب المتصاعد بالدين. ومع ان مثل هذا الأمر يقع بوضوح خارج حسابات المتاح للمعارضات غير الدينية، فإن واقع المجتمعات العربية يمنح الليبراليين واليسار على الأقل نظرياً العديد من الفرص لصياغة برامج سياسية جاذبة لقطاعات متنوعة من المواطنين.أمام الليبراليين ساحة واسعة للاهتمام بقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان، أو بالأحرى انتهاكاتها المستمرة، وكذلك للتركيز على معاني مواطنة الحقوق المتساوية المتخطية لحدود الدين والعرق والنوع، أما اليسار فلديه أيضاً ساحات وساحات للفعل الجماهيري على أرضية التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية، وغياب عدالة الحد الأدنى عن معظم المجتمعات العربية، بل ومسارها التطوري الراهن المنتقل من سيئ إلى أسوأ. لا جدال في أن الإسلاميين تفاعلوا إيجاباً مع بعض هذه الأفكار وانتزعوا بحيويتهم التنظيمية بعض المواقع هنا وهناك، مدافعين عن حقوق الإنسان ومنتصرين للعدالة الاجتماعية. إلا أن الصورة النهائية لفعلهم، خصوصا في ما يتعلق بقضايا الحريات متناقضة وتعوزها المصداقية، كما أن رؤاهم حول كيفية إدارة الشأن الاقتصادي والاجتماعي مازالت غامضة وقاصرة عن تقديم قراءة واضحة المعالم لحدود دور الدولة والمؤسسات العامة في مقابل مسؤوليات الأفراد. الأمر إذن مرهون بفاعلية المعارضات الليبرالية واليسارية وقدرتها على إجلاء نواقص الإسلاميين وإثبات تميز الذات.على صعيد آخر، يبدو أن مزيجا من الخوف إزاء الصعود السريع للإسلاميين والتشكك في مدى جدية أحاديثهم عن التزام الإصلاح والديمقراطية، دفع بعض المعارضات الليبرالية واليسارية إلى تبني خيار الاحتماء بنخب الحكم القامعة للإسلاميين، بل وربما التحالف معها لضمان حد أدنى من الوجود في الحياة السياسية. مثل هذه الممارسات لم توسع على الإطلاق من مساحات فعل الليبراليين واليسار، بل على نقيض ذلك أنهكتهم ركضاً وراء نخب حكم قمعية كل همها هو البقاء في السلطة، وانتقصت كثيراً من مصداقيتهم أمام قطاعات واسعة من المواطنين تتعاطف مع الدينيين وتراهم ضحية مؤامرة مزدوجة تديرها نخب فاسدة وحركات ليبرالية ويسارية كارهة للدين. آن الأوان لليبراليين واليسار، إن أرادوا انعتاقاً من مأزق التحالف مع النخب وتجاوز محدودية حصيلة التكتل ضد الإسلاميين، أن يعيدوا النظر في مواقفهم واستراتيجياتهم، فعندما يتحول فصيل إسلامي إلى قوة تمارس العمل السياسي الشرعي والسلمي وتبدي مرونة متصاعدة إزاء قضايا الحريات المدنية والعامة، ثم يتواكب ذلك مع وجود نخب حكم لا تريد إحداث نقلات حقيقة نحو الديمقراطية، يصبح لزاماً على الليبراليين واليسار البحث عن مساحات للتنسيق والفعل المشترك مع الإسلاميين، أما إن غاب عن الحركة الإسلامية الالتزام المبدئي بسلمية العمل السياسي ومرجعياته الدستورية أو التبست مواقفها من مواطنة الحقوق المتساوية، فيتعين على الحركات الليبرالية واليسارية أن تواجه الإسلاميين سياسياً، لكن من دون المساومة مع نخب الحكم القمعية أو تبرير لانتهاكاتها المتكررة للحريات ولحقوق الإنسان.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي