سحر موسيقاه وسرُّها!
يوسف شاهين ليس مخرجًا كبيرًا وعلامة مهمة في تاريخ السينما المصرية والعربية فحسب، بل هو أهم «موسيقي» عبقري ومتذوّق خاص، له رؤية شديدة العذوبة والخصوصية...
لا تشكّل الموسيقى عنصرًا تكميليًا في إبداعه، بل الأكثر تعبيرا عن شخصياته، مشاعرهم، أحاسيسهم، لا تحلّق جملة موسيقية خارج السرب، لحّن مقطوعات وأغنيات وأوحى للملحّنين ببعضها...ستظل «يا سلام على حبي وحبك»، «زينة»، «الأرض لو عطشانة»، «بهية»، «حدوته مصرية»، «علي صوتك بالغنا» وأغنيات كثيرة، محفورة في ذاكرتنا وتعيش في وجداننا، وتؤكد أن شاهين كان يمتلك حساً غنائياً وموسيقياً مميزًا. الدرس الأوليقول المطرب محمد منير إن «أبرز المحطات التي طوّرت من شخصيتي الغنائية أغنية «حدوتة مصرية»، إذ تلقيت خلالها درسًا مهمًا أدى دورًا بارزًا في المراحل التالية، تعلمت من يوسف شاهين أن الغناء في السينما يختلف تماما عن الغناء الذي أقدمه عموما».يضيف منير: « كان دائم البحث عن الجديد في الموسيقى ومستمعاً جيداً لكل الألوان والمدارس، رؤيته الموسيقية لا خلاف عليها ومهما جادلنا في النهاية، ما يقوله هو الصحيح، مثلا في «حدوتة مصرية» أسمعته لحنًا، لكنه فاجأني بتطويره على النحو الذي ظهرت به، لم يبخل على الموسيقى أبدا، استعان بأفضل أوركسترا وأجمل المقطوعات وأفضل توزيع وأجمل موضع لا يمكن الخلاف عليه، لذا ستظل أعماله وموسيقاه تحمل خصوصية». دراية بدوره، يرى الموسيقار عمر خيرت أن «العمل مع شاهين له متعة كبيرة، فهو يحب الموسيقى ولديه مكتبة موسيقية ودراية كبيرة بها، في فيلم «سكوت هنصوّر» غنى ولحّن وألّف، وفاجأني بأنه لحن أغنية في الفيلم، في البداية اعتقدت أنه يمزح، لكنه أسمعني اللحن ووجدت لديه موهبة كبيرة، لم أدخل أية تعديلات على مضمونه، لكن التوزيع اضطرَّني الى إدخال تعديلات بسيطة ليتناسب معها اللحن». أما الشاعر جمال بخيت فيؤكد أن «أغاني أفلام شاهين لها سياق درامي مستقل، مثل «تعرف تتكلم بلدي» التي غنتها لطيفة في «سكوت هنصور»، وصوِّرت منفردة وكان لها وقع في الوطن العربي ككل وليس في مصرفحسب».يعتبر بخيت أن «خدوا عيني وشوفوا بيها» التي غناها شاهين في «إسكندرية كمان وكمان « أشبه بأوبريت مصغرة، «لخّص خلالها رؤيته للآخرين في عيوننا، حتى لو تناقض ذلك مع الحقيقة والواقع». يشدد على أن «شاهين لم يكن ديكتاتورياً كما يتردد عنه، بل متعاونا جدا وديموقراطيا ويقبل وجهة نظر الآخر، مثلا في أغنية آدم وحنان التي كتبتها لفيلم «الآخر» كانت ثمة جملة «جايين من ورا موج وبحار»، لكنه ظل يبحث عن كلمة أخرى وبالفعل فطن لكلمة «هالين» ووجدتها أنسب وأفضل، في النهاية لم يفرض علي وضعها وكان حريصا على موافقتي».يشير بخيت إلى أن «شاهين كان من أفضل المخرجين الذين يفهمون في الموسيقى ممن تعاملت معهم، وتمتع بأذن موسيقية جيدة، آمن أن الموسيقى يجب أن تعبر عن المشهد في الفيلم، أي بعيدا عن فكرة الحضور لمجرد الحضور، مثلا استغرقت كتابة أغنية «تعرف تتكلم بلدي» في «سكوت هنصور» ثلاثة أشهر الى أن وصلت الى ما يريده شاهين».يضيف بخيت: كانت «مشكلتي مع «جو» في وزن الشعر، أكتب الأغنية وفقاً لقواعد شعرية وأوزان محددة، وعندما يقرأها يريد أن يغيّر فيها كلمة أو جملة قد تختلف مع الوزن، لكننا في النهاية كنا نحاول الوصول إلى حل وسط، ما لا يعرفه البعض أنه كتب أجزاءً كبيره من أغنية «تعرف تتكلم بلدي» وحاولت ألا أكتب اسمي عليها لكنه رفض». مصداقيّة وإحساسعشق شاهين صوت أم كلثوم وفيروز وماجدة ومحمد منير. قدّم الرومي للمرة الأولى بطلة في السينما لتنطلق بعدها، وأشرك منير في عدد مهم من أفلامه آخرها «المصير».يقول المؤلف الموسيقي خالد حماد إن «شاهين كان يختار المطربين ليس على أساس الشهرة بل وفقا للإحساس، لقيمتهم الفنية، وكمية العطاء في داخلهم».في السياق نفسه، يقول الممثل عزت العلايلي: «يخلق شاهين الموسيقى من قلب الحدث، ما يشير الى عبقريته، مثلا في «الأرض» وتحديدا في المشهد الذي يزحف فيه المليجي على الأرض، قال «هنا لازم تكون فيه أغنية» وبالفعل كانت «الأرض لو عطشانة»، كذلك في مشهد الحصاد كانت أغنية «نورت يا قطن النيل»، لديه دائما وجهة نظر وتصدق رؤيته، ما يفسِّر سر صمود تلك الأغنيات».