موقع تركيا من خريطة أميركا الاستراتيجية
انتهت زيارة أوباما التاريخية إلى تركيا ولكن تداعياتها العميقة على نسق التحالفات في المنطقة لم تنته بعد، بل ستظل قائمة إلى فترة زمنية قادمة، لأن الديناميكيات التي أطلقتها تلك الزيارة من عقالها تتجاوز بكثير مجرد زيارة بروتوكولية من رئيس دولة عظمى إلى دولة إقليمية كبيرة. تصل دلالات الزيارة إلى حد اعتبارها فاتحة لشراكة استراتيجية جديدة بين القوة العالمية الأعظم أميركا والقوة الإقليمية الصاعدة تركيا في قوس جغرافي كبير ممتد من حدود روسيا الجنوبية مروراً بالقوقاز وإيران العراق وسورية. صحيح أن تركيا تتحالف مع أميركا منذ عشرات السنين، وهي العضو الأصيل في حلف الناتو، وصحيح أن التوجه نحو الغرب كان ملازماً لقيام الجمهورية التركية، إلا أن احتلال العراق في العام 2003 وقيام كيان للأكراد في شماله هز بعمق ما وقر في الوجدان التركي من متانة العلاقات الأميركية-التركية. يتمثل البعد الأهم لزيارة أوباما في سياقها الإقليمي المخالف لما تم منذ احتلال العراق، إذ تتزامن الزيارة مع نية الولايات المتحدة الأميركية في الانسحاب ورغبتها أن تساعدها تركيا على ذلك لوجستياً وسياسياً. فقط في هذا الإطار يمكن فهم أهمية الزيارة من المنظور التركي، وعلى هامش هذا المكسب الرئيسي فقد حصدت تركيا مكاسب إضافية مثل فوزها بمنصب نائب السكرتير العام لحلف الناتو، أو أنها- وليس غيرها- كانت المنبر الذي توجه منه الرئيس الأميركي لمخاطبة العالم الإسلامي بغية ترميم صورة أميركا المتردية على يد الرئيس السابق جورج بوش. وترافقت زيارة أوباما مع رغبة أميركية في الانسحاب من العراق والشرق الأوسط وتعزيز التمركز في أفغانستان، بالتوازي مع إعادة اكتشاف تركيا لدورها الجديد في المنطقة. ويعني ذلك بوضوح أن الدخول التركي إلى ساحات المنطقة والخروج الأميركي منها، سيتطلب تنسيقاً تفصيلياً بين الطرفين، في موضوعات الاتفاق المتنوعة. يبدو أن العراق هو أحد أهم محاور الاتفاق، حيث وضعت واشنطن خطة الخروج منه وتريد من تركيا تسهيل هذه الخطة، في حين أن تركيا لا مشكلة لديها في ذلك، ولكن المطلوب تركياً هو ضمان ألا يسيطر الأكراد على مدينة كركوك الغنية بالنفط خصوصاً مع تصاعد المطالب الكردية بالمدينة وضمها لمناطق حكمهم الذاتي. وبالتالي سيمثل إطلاق يد تركيا في كركوك والحيلولة دون وقوعها في منطقة الحكم الذاتي الكردي «تعريفة مرور» ستدفعها واشنطن- على الأرجح- لأنقرة مقابل توفير خطوط الانسحاب عبر الشمال العراقي. بمعنى آخر تشير إدارة أوباما لتركيا أنها بصدد تصحيح النتيجة النهائية لحرب بوش على العراق من فوز وحيد لطهران في مقابل خسائر لتركيا والعرب، إلى ضم تركيا مرة أخرى إلى صفوف الرابحين من الحرب على العراق، وهي نتيجة فائقة الأهمية من حيث التوازن في الحضور الإقليمي بين إيران وتركيا. يتمثل المشترك الأميركي التركي الثاني في المسألة السورية حيث تتشارك واشنطن مع أنقره وعواصم «محور الاعتدال» على أهمية سحب دمشق بعيداً عن تحالفها الحالي مع طهران، وصولاً إلى تقليص النفوذ الإيراني في المشرق العربي بالنظر إلى الموقع المركزي والفريد للجغرافيا السورية فيه. وفي هذا السياق تجدر ملاحظة أن أنقره هي التي هندست ورعت وأطلقت المفاوضات السورية-الإسرائيلية غير المباشرة، ويبدو أن العائق الأكبر هو الثمن الذي ستطلبه سورية لقاء ذلك (لبنان)، وهو ثمن لا يستطيع تسديده سوى واشنطن وليس أنقره أو تل أبيب. تتشارك واشنطن وأنقرة في الاهتمام بإيران ودورها في الترتيبات الجديدة للمنطقة، وإذا كانت واشنطن لا تعتمد بالضرورة على تركيا في الوساطة بين طهران وواشنطن، فإنها تعتمد على تركيا بوضوح في تحجيم إيران إقليمياً. ربما تكمن الاختلافات في المصالح بين واشنطن وأنقره عند المناطق التي تتقاطع فيها المصالح التركية والروسية، بسبب المحدودية النسبية لقدرات تركيا مقابل روسيا من النواحي العسكرية والاقتصادية. تملك تركيا تحالفاً متيناً مع أذربيجان وعلاقات قوية مع جورجيا، فإنها تمثل في الوقت ذاته ممر الطاقة بين بحر قزوين وأوروبا وهو الخط الموجه من الناحية الجيوبوليتيكية ضد المصالح الروسية، بسبب أنه يحرر أوروبا من قبضة إمدادات الطاقة الروسية. هنا يجب ملاحظة أن لقاء أوباما-ميدفيديف في لندن قبل الزيارة بأيام قليلة قد فشل فشلاً مدوياً لسبب أساسي مفاده أن روسيا لم تلعب اللعبة الأميركية بالضغط على إيران في ملفها النووي مقابل تفكيك شبكة الصواريخ الأميركية في وسط أوروبا (راجع مقالنا هنا في 5/3/2009)، ولذلك جاء إعلان أوباما عن المضي قدماً في بناء شبكات الصواريخ في وسط أوروبا من جمهورية التشيك التي ستشهد مع بولندا نشر هذه الصواريخ. لعبت تركيا لعبتها ببراعة لأنها تعرف حاجة أوباما إليها في خطته الكونية الجديدة، ولأن أحمد داود أوغلو، صانع السياسة الخارجية التركية وكبير مستشاري رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، أدى عمله بشكل جيد في زيارته الأميركية الأخيرة (راجع مقالنا السابق هنا). من ناحيته أثبت باراك أوباما عبر الزيارة أنه رئيس الولايات المتحدة الأميركية بجدارة، وذلك لأنه قدم مصالح بلاده الأعمق على ما سواها من اعتبارات؛ فهو رئيس أميركا وبما يفرضه عليه هذا المنصب من صيانة لمصالح بلاده الكونية والاستراتيجية، وقبل أن يكون مجرد الرئيس المنتخب لأميركا عن الحزب الديمقراطي. ولذلك ربما يكون التوصيف الأدق للسياسة الخارجية الأميركية في عصر أوباما بأنها سياسة واقعية تسعى لتحقيق المصالح الكونية الأميركية بقفاز من حرير وبتحالفات استراتيجية عميقة المدى! * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء