عالم العراق الافتراضي تكنولوجيا لعلاج توتر جنود العم سام!
واشنطن - بالنسبة إلى جندي خدم في العراق، المشاهد والأصوات والروائح كلها مألوفة، من صوت البندقية الرشاشة ووميض القنبلة إلى رائحة الكورديت... لكن الموقع جديد.
هنا في هذه الغرفة الصغيرة الخالية من النوافذ في مركز والتر ريد الطبي العسكري، يستخدم الباحثون أحدث تقنيات ألعاب الفيديو، فضلاً عن آلة تولد الرائحة المطلوبة ومنصة متحركة، لمساعدة المرضى الذين يعانون من «اضطراب التوتر ما بعد الصدمة» Post-Traumatic Stress Disorder. يُعرف العلاج بـ«عالم العراق الافتراضي» Virtual Iraq، ويمكن أن يساعد الجنود الذين لا يشفون بواسطة الأدوية والعلاجات النفسية التقليدية.يقول العقيد مايكل روي، الذي يدير برنامج العلاج الرقمي هذا في مركز والتر ريد: «يحرك البرنامج الذاكرة ويعيدهم إلى تلك اللحظات العصيبة ويجعلهم يدركون الأمور التي كبتوها بشكل واعٍ أو غير واعٍ».يذكر مؤيدو العلاج الجديد أن المرضى، ما إن يستعيدوا تلك الذكريات، يبدأون بالتحدث إلى معالجين، ما يجعل في النهاية أشباح الماضي هذه أقل تأثيراً.لم يخضع للعلاج الجديد سوى خمسين جندياً من كل أنحاء البلد خلال السنوات الثلاث الماضية. لذلك يعتبر بعض النقاد أن فاعليته ما زالت غير مثبتة.في العراق، استخدم الرائد في البحرية روبرت ماكلاي، وهو طبيب نفسي في معسكر الفلوجة في محافظة الأنبار، العلاج مع ثمانية جنود، ويؤكد أنهم تحسنوا.يضيف ماكلاي موضحاً: «يلقى هذا العلاج النجاح». ثمة عدد كبير من المرضى المحتملين. يؤكد الخبراء أن اضطراب التوتر ما بعد الصدمة (مرض موهن يوقع المريض فريسة الخوف والغضب وذكريات المعارك التي لا تفارقه) سيشكل معضلة كبرى تخرب حياة نحو 1.7 مليون جندي خدموا في العراق وأفغانستان.أظهرت دراسة في مجلة «نيو إنغلاند» الطبية أن بين ربع وثلث مَن شاركوا في هذين الصراعين سيعانون من هذا الاضطراب ومن مشاكل الصحة العقلية. في شهر مايو (أيار) الماضي، قدّر معهد راند أن ما لا يقل عن 300 ألف جندي سيعانون من مشاكل نفسية تتعلق بالحرب.يدفع برنامج «عالم العراق الافتراضي» المرضى إلى دخول العالم القاسي الذي سبب لهم هذه العوارض. بعد وضع النظارات والسماعات التي تنقلهم إلى هذا العالم الافتراضي، يمر المرضى بمشهدين: الأول موكب سيارات عسكرية يعبر الصحراء، والثاني دورية راجلة تسير في مدينة مهجورة.يستخدم هؤلاء جهاز تحكم خاصاً بألعاب الفيديو لضبط تنقلاتهم، وبتحريك رأسهم يبدلون ما يرونه داخل تلك البيئة. أما الطبيب النفسي، الذي يتحكم في كل المتغيرات في هذه البيئة، ما عدا تحركات المريض، فيرفع ببطء معدل التوتر بإضافة صفارات الإنذار وبندقيات القناصة والانفجارات.توتر ما بعد الصدمةلا يحتوي هذا العالم الرقمي على المخاطر ومسببات التوتر فحسب (متفجرات على جوانب الطرقات، متمردون يرمون القنابل، جندي أميركي مصاب ينزف على مقعد السيارة العسكرية)، إنما التفاصيل العادية التي تذكر بحياة الجندي اليومية في العراق أيضاً. يسمع المريض صوت الآذان ويرى نساء عراقيات يسرن في السوق وهن يرتدين الزي التقليدي. تؤثر البيئة الافتراضية في حواس المريض الأخرى، فتحت كرسيه مكبرات صوت ضخمة مزروعة في منصة، لذلك عندما تنفجر قنبلة على الشاشة، يكون وقعها قوياً عليه. قرب جهاز الكمبيوتر، ثمة آلة صغيرة تصدر روائح، وبوضع كرات صغيرة فيها، يستطيع روي أن يملأ الجو بمجموعة متنوعة من الروائح، بما في ذلك العرق والنفايات المحترقة والتوابل الشرق أوسطية. يعتقد أن الروائح والضجيج قد تكون العناصر الأكثر تأثيراً في استرجاع ذكريات حرب العراق، تتصل مراكز الدماغ التي تعالج الرائحة والصوت بشكل وثيق بمراكز تؤدي دوراً أساسياً في معالجة الخوف والذكريات، وهذه عوامل رئيسة في توتر ما بعد الصدمة.هوس بالألعابلكن بعض الباحثين يشكك في أن هذه الطريقة الجديدة تحسّن العلاج التقليدي.عن المسألة تذكر إدنا فوا، عالمة نفسانية في جامعة بنسلفانيا وخبيرة في العلاج بالتعرض: «لا نملك أدلة قاطعة تثبت ضرورة اللجوء إلى العلاج الافتراضي، وهو أيضاً باهظ جداً، لا أفهم ما الذي يدعم هذه الفكرة غير الهوس بهذه الألعاب». تضيف فوا، التي تعالج مرضى اضراب التوتر ما بعد الصدمة، وبعضهم جنود في الولايات المتحدة وإسرائيل، أن الصور في العلاج الافتراضي قد تكون عامة جداً، فلا تنجح في تحريك ذكريات المريض الخاصة. لكن ريزو يقول إن كامل التجهيزات، أي الكمبيوتر والبرامج والمعدات الأخرى، تكلف نحو 7 آلاف دولار، ويدّعي أن التجهيزات لا تُعتبر مكلفة إذا كانت تساعد مجموعة من المرضى، كذلك يقول هو وآخرون إن البرنامج واقعي جداً.لا يسمح الجيش لمرضى الصحة العقلية بالتحدث إلى وسائل الإعلام. غير أن آخرين ممن عانوا من مآسي الحرب يؤكدون أن عالم العراق الافتراضي يثير ردود فعل عاطفية قوية.أمضى العالم النفساني التابع لسلاح البحرية، سكوت جونستون، تسعة أشهر في العراق بين عامي 2006 و2007، وساعد الجنود المصابين بتوتر حاد. بما أن العلاج يحقق نجاحاً أكبر عندما يُعطى بُعيد المعارك، قضى جونستون معظم وقته مع وحدات مشاة البحرية في الرمضاني والفلوجة، وعندما عاد إلى المركز الطبي التابع للبحرية في سان دييغو، تابع بحثه في مجال العلاج الافتراضي.عندما وضع نظارات الواقع الافتراضي، تبين له أن هذه البيئة تولد إحساساً بدائياً يجعلك تشعر أنك في ساحة القتال.يخبر جونستون: «أعادني العلاج إلى ما اختبرته». مع أنه لم يعانِ من نوع حاد من اضطراب التوتر ما بعد الصدمة، أصيب جونستون ببعض العوارض إثر عودته إلى الولايات المتحدة. أصبح يبالغ في الانتباه خلال القيادة وتنتابه نوبات الغضب سريعاً. كذلك بدأ يعاني من مشاكل في التركيز، لكنه يشير الى أن حدة هذه المشاكل خفت منذ أن خضع للعلاج.يجري جونستون راهناً دراستين حول العلاج الافتراضي تشملان 30 مريضاً، ويذكر أن النتائج الأولية تظهر أن العوارض في 80% من الحالات شهدت انخفاضاً كبيراً، وفي أكثر من النصف اختفت تماماً.ابتكار مثير للجدلابتكر «عالم العراق الافتراضي» ألبرت «سكيب» ريزو، عالم نفساني وباحث في جامعة جنوب كاليفورنيا. أثارت هذه المقاربة اهتمامه قبل 15 سنة، فيما كان يحاول إعادة تأهيل أناس يعانون من إصابات في الدماغ ناجمة عن الصدمات، ففوجئ ذات يوم عندما لاحظ أحد المرضى منكباً على لعبة كمبيوتر صغيرة. عادة، يواجه المريض الذي تعرَّض لإصابة في الدماغ مشكلة في التركيز على مهمة ما في أي فترة من الوقت.أدرك ريزو أن العلاجات الافتراضية يمكن أن تزيد على اهتمام المرضى وتحسِّن أداءهم. شغلت الفكرة باله، حتى إنه ترك عمله كعالم نفساني سريري ليصبح باحثاً أقل شأناً في جامعة جنوب كاليفورنيا، وانخفض راتبه من 80 ألف دولار إلى 30 ألفاً. بدأ العمل بأجهزة الترميز الرقمية وطوَّر برامج افتراضية للعلاج. في غضون سنوات قليلة، ابتكر عدداً من البرامج، منها برنامج لمرضى السكتة الدماغية وآخر للأولاد الذين يعانون من اضطراب نقص الانتباه.عام 2003، استنتج ريزو، أصبح آنذاك بروفسوراً في جامعة جنوب كاليفورنيا، أن حرب العراق ستدوم على الأرجح سنوات وستؤدي إلى عدد كبير من مرضى اضطراب التوتر ما بعد الصدمة. بدأ العمل على «عالم العراق الافتراضي» واتصل بباحثين آخرين يشاطرونه أفكاره هذه، ومنهم روي.مع تزايد القلق حيال صحة الجنود العقلية، استقطب العلاج الافتراضي اهتماماً أكبر. أنفقت وزارة الدفاع نحو 5 ملايين دولار لتمويل أبحاث في ستة مواقع مختلفة حول العالم، بما في ذلك والتر ريد وكلية وايل كورنل الطبية في نيويورك.أما الدراسة الأكثر إقناعاً حتى الآن فتشمل مجموعة من 14 شخصاً من سكان نيويورك يعانون من اضطراب التوتر ما بعد الصدمة بسبب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) على مركز التجارة العالمي. تحسّنت حال هؤلاء الذين جربوا علاجات أخرى من دون نجاح إلى حد كبير، بعد تلقيهم العلاج الافتراضي.يجري روي أول دراسة منظمة، مقارناً 15 مريضاً يتلقون العلاج الافتراضي مع 15 آخرين يخضعون لعلاج نفسي تقليدي. عمدت الدراسات السابقة إلى تفحص العلاج الافتراضي من دون مقارنته مع مقاربات أخرى.غالباً ما يضيف ريزو وروي وغيرهما من الباحثين أفكاراً جديدة إلى هذا البرنامج مستوحاة من الجنود ليجعلوا هذه التجربة تبدو أكثر واقعية. كذلك سيُضيف المبرمجون في جامعة جنوب كاليفورنيا احتمال التعرض لنيران صديقة ونسخة تشبه أفغانستان تحتوي الكثير من الجبال. بطلب من المرضى، أضاف الباحثون سلاحاً، وهو نموذج يُستعمل في التدريب لا زناد له، لكنه يشبه سلاحي ام 16 وام 4 من حيث الوزن والشكل.عن المسألة يقول روي: «يفضلون حمل سلاح ما، فهذا يزيد من واقعية المشهد». حتى إن جنوداً كثيرين يحملون السلاح ويختبئون خلال مشاركتهم في الدورية الافتراضية. لكن روي يؤكد أن ما من إطلاق نار رقمي لأن ذلك قد يُضعف هدف العلاج، ألا وهو خفض التوتر الذي يشتهر به المرضى.كذلك يذكر ريزو والآخرون أن المقاربة الرقمية يمكن أن تساعد مرضى كثراً يعانون من صعوبة في الوصول إلى الذكريات المخيفة المسببة لمرضهم. يتطلب نوع العلاج الأكثر شيوعاً، وهو العلاج بالتعرض Exposure therapy، من المريض أن يتذكر الحوادث التي تثير خوفه وتوتره. خلال عدد من الجلسات، يمر بالعملية مراراً، مما يسلب الذكريات قدرتها على إخافته.يستصعب كثيرون من مرضى اضطراب التوتر ما بعد الصدمة مواجهة ذكرياتهم المرعبة، حتى إن نسبة كبيرة منهم، يقدرها روي بنحو نصف المرضى، ترفض الخضوع لعلاج تقليدي أو لا تنهيه.لا شك في أن الفريق سيكون المستفيد الأكبر من العلاج الافتراضي، على حد قول مؤيديه. ما إن يصب المريض اهتمامه على عالم العراق الرقمي، يسهل عليه تذكر المشاعر والحوادث المؤلمة، لكن ذلك لا يعفيهم من تلك العملية العلاجية الصعبة التي تتطلب منهم تذكر ما حدث معهم والتحدث عنه، حسبما يقول روي، إلا أنهم يحظون بمساعدة كبيرة خلال الخطوات الأساسية الأولى.يتابع روي مستطرداً: «لا شك في أن رؤية تلك المشاهد (على جهاز الكمبيوتر) غير كافية. نريدهم أن يستخدموها كمحفز يدفعهم إلى وصف تجاربهم ومشاعرهم».