تطور العلاقات الإيرانية - التركية وانعكاساتها على المنطقة 3-3
أدى احتلال العراق إلى نتيجة واضحة في التنافس الإيراني - التركي، مفادها أن الطرفين الأميركي والإيراني صارا الأقوى على الساحة العراقية؛ فالأول يحتل العراق عسكرياً، والثاني يحكم ويتحكم في مقدرات السلطة في بغداد عن طريق الحلفاء. كلاهما لا يستطيع إزاحة الآخر، طهران لا تملك الأدوات العسكرية لذلك، أما واشنطن وإن سيطرت عسكرياً فإنها تعاني مأزقاً مستحكماًً متمثلاً في تصاعد عمليات المقاومة، ولا يمكنها إزاحة حلفاء إيران من المشهد السياسي. ولم يكتفِ حلفاء إيران بتصدر واجهة المشهد السياسي في ظل الاحتلال، بل تحولت ميليشياتهم العسكرية إلى نواة للتشكيلات النظامية العراقية في وزارتي الداخلية والدفاع. القوى الإقليمية غائبة عن المشهد، فالدول العربية الرئيسية ودول جوار العراق لم تنجح في الوصول إلى تصور مشترك بشأن العراق، بسبب الضغوط الأميركية المتوالية عليها، والتي همشت مصالحها الإقليمية المشروعة. وبالتوازي مع ذلك، يلعب الأكراد دور العازل الجغرافي لتمدد تركيا الإقليمي في العراق، بانتشارهم على كامل الحدود العراقية-التركية المشتركة وبغطاء أميركي سياسي وعسكري. ومع تحييد دور تركيا والخواء الإقليمي الذي تشهده المنطقة بسبب غياب الدور العربي الملتحق بالدور الأميركي قسراً، لا يتبقى على الساحة العراقية سوى اللاعبَين الأساسيَين واشنطن وطهران. كان الدور الإقليمي، ومازال، هاجساً يسكن قلوب حكام إيران منذ تأسيس دولتها الحديثة، ومحاولة مد نفوذ إيران إلى العراق مثل دوماً «ترمومتراً» لقياس قدراتها الإقليمية. عقدت الدولة الصفوية والقاجارية من بعدها اتفاقات متتالية مع الدولة العثمانية التي كانت الألوية الثلاثة المشكلة للعراق (الموصل وبغداد والبصرة) جزءاً منها حتى الاستقلال في عام 1921. وأعطت هذه الاتفاقات إيران -فيما أعطت- حق الإشراف على الأماكن الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء، وللتأكيد على هذا النفوذ فقد سافر الشاه عباس الصفوي في بدايات القرن السادس عشر الميلادي من عاصمة ملكه أصفهان حتى العتبات المقدسة في النجف؛ مشياً على الأقدام ليكنس قبر الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ويلقب نفسه على العملة الرسمية بلقب «كلب عتبة علي». وهكذا حفر الشاه عباس -ولو بالمكنسة والعملة المعدنية- طموح بلاده التاريخي في جنوب العراق، وتوقها الأزلي إلى لعب دور إقليمي، كان النفوذ في العراق ومازال شرطه الأساس. أما الجمهورية التركية، وريثة الدولة العلية العثمانية، فلها ارتباطات أخرى تاريخية بالعراق، خصوصاً بالتركمان في شماله، لكن حلفاء تركيا من التركمان لا يرقون من حيث العدد أو الإمكانات إلى مستوى الأكراد، ناهيك عن شبكة التحالفات الإقليمية والدولية للأخيرين. وهكذا ففي مقابل معسكر إقليمي تقوده إيران ويشمل الأحزاب الكردية والشيعية، لا تبدو مروحة التحالفات التركية دائرة إلّا على اختيارات محدودة من التركمان أولاً، وبالاشتراك مع دول عربية أخرى من الأحزاب السنية العراقية ثانياً. كانت السياسة الإقليمية لتركيا في العراق -ومازالت حتى كتابة هذه السطور- في مأزق، بسبب تزايد الثقل الإقليمي الإيراني هناك، وهكذا عدّلت طهران نتيجة السباق الإقليمي بينها وبين أنقره، بعد أن كانت الكفّة تميل لمصلحة الأخيرة بعد أن حسمت الصراع على طرق نقل أنابيب النفط من بحر قزوين وآسيا الوسطى لمصلحتها. ومع تزايد الطموحات النووية الإيرانية، فقد عمدت تركيا بدورها إلى إعادة النظر في استراتيجيتها النووية باتجاه التراجع عن حيادها النووي، لأن وصول إيران إلى امتلاك التكنولوجيا النووية يثبِّت وضعها أمام تركيا الراغبة مثلها في التمدد إلى منطقة الشرق الأوسط. صحيح أن البوصلة الأساسية للسياسة التركية توجهت دوماً نحو الغرب، لكن مماطلة الاتحاد الأوروبي في قبول تركيا عضواً فيه ووضع العراقيل أمام انضمامها، يجبران صنّاع السياسة في أنقرة على ترتيب الأولويات الجغرافية لتركيا متعددة الإطلالات والمواهب الجغرافية، ووضع الشرق الأوسط في مقدمها. ويقضي التصور الحاكم للشرق الأوسط في المخيلة الاستراتيجية التركية، بأن أنقرة تستطيع ترجمة نفوذها الإقليمي هنا إلى نفوذ إضافي يضغط على الاتحاد الأوروبي ويغازل طموحاته ومصالحه في المنطقة، لكن النفوذ والحضور الإقليمي التركي في المنطقة لا يمكن أن يمرا إلا عبر بوابتين رئيسيتين هما العراق أولاً، وسورية ثانياً. صحيح أن العلاقات بين كل من أنقره ودمشق قد تحسنت تحسناً كبيراً في السنوات الماضية، إلا أن انضواء دمشق في التحالف الإقليمي الذي تقوده إيران يجعل العلاقات السورية-التركية في درجة تالية من الأهمية بعد تحالفها الاستراتيجي مع طهران، وذلك على الرغم من وساطة أنقرة بين دمشق وتل أبيب. كما أن الأكراد في العراق يضعون تركيا في مرتبة الخطر الأول على طموحاتهم القومية، ويتمددون في شمال العراق لعزل تمدد تركيا نحو العراق، وفى الوقت نفسه يكرسون تحالفهم الدولي مع واشنطن حليفة تركيا، بما يجعل الأخيرة مكبلة اليدين تجاههم. على هذه الخلفية، يمكن اعتبار أن مستقبل تطور العلاقات الإيرانية-التركية في الفترة القليلة المقبلة، يبقى رهناً بتصارع مجموعة من العوامل فيما بينها، ويتصدر هذه العوامل التناقض في الأفكار المؤسسة لأدوار كل من النظامين السياسيين في طهران وأنقرة، وكذلك بقدرتهما على لعب دور حاسم في تجذير التباعد بينهما. ومن جملة هذه العوامل أيضاً التنافس التاريخي للبلدين على النفوذ في المنطقة، وتصادم المنظومة الفلسفية والقيمية لكل منهما، والمواقع المتناقضة في التحالفات الدولية. تشترك طهران وأنقره في حقيقة أنهما تمتلكان موقعاً جيو-استراتيجياً مهماً في المنطقة، لكنهما أيضاً تعانيان سوياً عدم وجود إطار مؤسسي يجمعهما مع الدول العربية في منظومة إقليمية وأمنية مشتركة، وإن كانت تركيا تستعيض عن ذلك بالانخراط في حلف الناتو والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، أما إيران فلم تتمكن من الانخراط في أي منظومة إقليمية أو دولية، وعلاقاتها الدولية مع روسيا والصين لا ترقى إلى مستوى علاقات تركيا بالغرب، ناهيك عن وضوح التفوق الأميركي على نظيريه الروسي والصيني في حلبة السياسة الدولية. باختصار، النفوذ الإقليمي لإيران يتواجه مع التحالفات الدولية لتركيا، أما نحن العرب فلا نلعب، ولا يبدو أننا نشجع اللعبة الحلوة أيضاً!*كاتب وباحث مصري