لكل طريقته

نشر في 10-04-2009
آخر تحديث 10-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان بسبب مئات القصص والروايات البوليسية التي قرأتها في صباي أردت الانضمام إلى رجال الشرطة، لأصبح مخبراً سرياً ماهراً وفذا وقادراً على الغوص والتحليل وإزاحة الغموض، ومطاردة عتاة المجرمين والقبض عليهم، وكان المخبر السري الأسطوري شارلوك هولمز الذي ابتدع شخصيته الكاتب الإنكليزى الكبير وطبيب العيون آرثر كونان رائداً في هذا المجال، لكن أحداً من المحيطين بي في ذلك الوقت لم يتحمس لرغبتي ربما لأنهم في الريف رأوا فيها محاولة لشق الصف والانتقال إلى معسكر الأعداء.

التحليل النفسي والاجتماعي في بعض القصص والروايات البوليسية كان دائماً يبهرني ويمنحني القدرة على رسم صورة دقيقة لمجتمع أو واقع ما، ومتابعة ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام الأخرى عن الحوادث والجرائم مازال على رأس اهتماماتي، فالحوادث والجرائم هي صرخات استغاثة يطلقها المجتمع ليشير بها إلى أمراضه ومعاناته وإلى التحولات الموجعة التي تهزه وتهدد أمنه وقيمة وجوده.

ولا أغالي عندما أقول إن الكاتب يتحول أحياناً في بعض أعماله إلى مخبر سري ومحلل نفسي واجتماعي يغوص ويحفر في قاع ذاته ومجتمعه محاولاً كشف المستور وإظهار ملامح الخلل والقصور.

وأشير هنا إلى ذلك الحس البوليسي المتواري في بعض أعمال كافكا؛ وديستوفيسكي؛ وجوجول؛ ودورينمات وغيرهم، وقبل عامين أصدر المشروع القومي للترجمة رواية «لكل طريقته» للكاتب الإيطالي ليوناردو شاشا ترجمة عامر الألفي، وهي رواية بوليسية غير تقليدية لا تعكس الأبعاد المعقدة للواقع الصقلي فقط بل تتجاوزه لتشمل الواقع الإنساني كله.

البطل الحقيقي للرواية هو التواطؤ الذي يجسده الصمت والخوف من مواجهة الفساد وفضحه وإدانة رموزه، وتبدأ الرواية بخطاب من مجهول يتسلمه صيدلي البلدة ليجد فيه رسالة من سطر واحد «هذا الخطاب هو بمنزلة الحكم عليك بالإعدام، وسوف تموت جزاء ما فعلت».

ويحلل الكاتب شخصية الصيدلي ليجسد المفارقة، فهو شخص عاجز مسالم وخائف وبلا ملامح كأغلب مواطنيه يسعى دائماً إلى إرضاء الجميع «لم يكن له باع في السياسة وصوته الانتخابي كان دائماً سرياً وفي الانتخابات السياسية يصوت لليسار، حيث جذوره وذكريات شبابه، وفي الانتخابات الإدارية هو ديمقراطي مسيحي... لم يدخل أبداً في نقاش مع أحد، أنصار اليمين يرونه يمينياً وأنصار اليسار يسارياً يعيش حياة هادئة ورتيبة، والصيد هوايته الوحيدة».

ويعتقد الصيدلي أن هواية الصيد وراء هذا الخطاب المرعب «لأن الصيادين يحسدونك إذا امتلكت كلباً أصيلاً، وقد كانت هناك حالات كثيرة لتَسَمُّم كلاب الصيد في البلدة»، ولأنه صياد ماهر ويملك كلبين جيدين فقد أثار الخطاب المجهول زهوه وأصبح شهادة على شهرته ومهارته كصياد، خصوصا بعد أن أجمع الناس على اعتبار الرسالة مزحة ثقيلة هدفها إرهابه وإبعاده عن ممارسة هوايته.

لكن الصيدلي يُغتال في الغابة ومعه صديقه الطبيب ويصمت الجميع ويحاول رجال الشرطة إنهاء التحقيق، واعتبار القتيلين ضحايا حوادث الصيد المعتادة، لكن مدرساً، يسعى إلى إزاحة الغموض، يكتشف هامشية دور الصيدلي وسعي أحد زعماء مافيا الفساد للاستيلاء على زوجة الطبيب وثروتها الهائلة، وسفر الطبيب قبل فترة إلى العاصمة، ليحدث نائباً برلمانياً عن جرائم الفساد في البلدة، وعن الوثائق التي جمعها لتقديمها إلى جهات التحقيق، ويقرر المدرس إتمام مهمة الطبيب، لكنه يختفي فجأة ليعم الصمت والخوف ويتعاظم التواطؤ، فالكل يعرف ولا يعرف، والكل يرى ولا يرى، والكل يخشى الحديث والثرثرة حتى مع زوجته أو أقرب أصدقائه دفعاً للبلاء وإيثاراً للسلامة.

«يجب أن نتحدث قال الموثق

وما الفائدة من الحديث قال دون لويجي بتعب

إن ما أعرفه تعلمه أنت أيضاً ويعلمه الجميع

فلماذا نتحدث عنه؟».

«السكوت علامة الرضا» يقول رجل الشارع وهو ما يؤكده ليوناردو شاشا في روايته ويدين بسببه كل المجتمعات التي تتقاعس عن مواجهة الفساد ودحره، وتحتمي بالصمت واللامبالاة، فتشجعه وتمنحه أفقاً أوسع يحلق فيه، وأرضاً تعينه على الازدهار والتمكن.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top