رسالة الوحشة.. ذكرى سمير قصير

نشر في 11-06-2008
آخر تحديث 11-06-2008 | 00:00
 بلال خبيز

سأرسل رسالة لسمير قصير... وطبعاً لن أخبر أيا كان عن مضمونها... وإن كنت لا أجزم أن الرسالة ستصل إلى علبة بريده، إلا أنني سأرسل الرسالة، لأنني أريد أن أقول أشياء كثيرة لا أريدها أن تصل إلى مسامع إنسان.

في غرفتي ثلاثة كراس، واحد للعزلة، واثنان للصداقات... أجلس على كل كرسي ردحاً، وأحاور أصدقائي في ما أظن أنهم يريدون المحاورة فيه... أحياناً أكون موضوع المحاورة وأحياناً أخرى أكون الهمل الذي تدور المحاورة على نفسها من دون أن تلحظه... في غرفتي ثلاثة كراس، وعلي أن أشغلها كلها في وقت واحد، وبهذه الهمة الفاترة أدير عجلة الوقت.

لا أملك عنوان يحيى جابر الإلكتروني، لسبب لا يمكن تبريره، ذلك أن التحوط من مهمات اللبنانيين الجليلة، لكنني لم آخذ عنوانه ولم أراسله، إذ كيف أراسل من أستطيع أن ألقاه كل يوم في المقهى نفسه، وغالباً وراء الطاولة نفسها، حيث نتسارر ونتحادث لأننا نستيقظ كل صباح وتحدونا رغبة في أن نلقي بأعمالنا إلى القمامة ولو لوقت قصير. لكن الواحد منا يكتشف أن الوقت الذي ظنه يتطاول مديداً على مساحات نهاراتنا ينقصف فجأة.

الآن تحدوني رغبة حادة في أن أراسله، وأقول له: شكراً أيها الرجل... أنا لم أشاهد الفيلم، لكنني رأيت حبك لمن صنعت الفيلم لأجله... لكنني لا أملك لساناً، بل الأحرى أنني لا أملك صوتاً يستطيع أن يقطع هذه المسافات التي صنعها الوقت بيننا.

الرجل حين يأخذ به الظعن يصبح هو نفسه ماضياً صرفاً... ليس لأن بعض الناس تنساه، بل لأنه لا يعود يستعمل عينيه للرؤية بل للتذكر: هذه الساحة تشبه قليلاً شارعاً من شوارع بيروت... وهذه الفتاة التي تجلس هنا وتدخن النرجيلة، ترتدي ثوباً يريد أن يتشبه بأثواب البيروتيات... لكنها ما إن تحادث صديقها حتى تنكشف أمامي: اللهجة ليست هي اللهجة. إذن، هناك احتمال من اثنين: إما أن هذه الفتاة سائحة وإما أنا. وحيث إنني لا أشعر برغبة السائح وفضوله، أسأل نفسي أين أنا؟ بل أين بيروت؟

الرجل الذي يملك كرسياً للعزلة يستطيع أن يتذكر كما لو أن التذكر هو العيش... هنا على لائحة الأصدقاء، حيث النافذة الوحيدة التي تنفتح لي، ثمة أسماء كثيرة مطفأة... وبعضها تقادم به الزمن حياً فلم أعد أستطيع أن أراسله وأقحم غيابي في انشغالاته... بعضهم الآخر، لا أعرف كيف أدبج رسالة له، فأنا كما اكتشفت متأخراً جداً، أقيم لأفكار الفلاسفة وزناً فائضاً... وحيث إنني كنت أسيرُ في طريقي، فإنني، والله أعلم، قد آذيت كثيرين لم أكن أقصد إيذاءهم.

ومثلما يعتقد الفلاسفة، بعضهم على الأقل، أن الشر ليس موجوداً ككيان مستقل عن الخير، وأنه ليس نقيضه، بل هو بالتحديد بعض مضاعفاته الجانبية غير المرغوب فيها... هكذا أعرف الآن أنني في خط سيري المتوحد نجحت في إيذاء من لم أكن أريد إيذاءهم، ولم تكن لدي رغبة بذلك... لكن لا بأس من اعتذار متأخر، وإن كان لن يقيم لتجدد الصداقة أوداً.

على أي حال، سيبقى هذا موضوعاً جانبياً وغير مهم، أقله الآن... إنما يجب أن أعترف أن مثل هذا الاعتذار الآن يشبه البوح، ولا يحتمل العتاب، فليس ثمة ما يقتل البوح أكثر من العتاب، لذلك أود أن أرسل رسالة أبوح فيها باعتذاري برجاء ألا يرد أحد على الرسالة.

على هذه النافذة ثمة أسماء كثيرة... كلها ضاعت في زحام العمر، مع أن أصحابها جميعاً كانوا ذات يوم قد أبدوا استعداداً لصداقة ما... لكن الزحام دائماً ما يسلب المرء من نفسه ويجعله مقيماً على كرسي العزلة نفسه... هذا الذي في غرفتي... سأرسل رسالة لسمير قصير... وطبعاً لن أخبر أيا كان عن مضمونها... وإن كنت لا أجزم أن الرسالة ستصل إلى علبة بريده، إلا أنني سأرسل الرسالة، لأنني أريد أن أقول أشياء كثيرة لا أريدها أن تصل إلى مسامع إنسان، تماماً كما كان يكتب البحارة رسائلهم ويضعونها في قوارير تحول دون تلفها، ويرمونها في البحر، رسائل البحارة خالدة وأصيلة إلى أن يقرأها أي إنسان، في تلك اللحظة تتحول الرسالة حكاية، وتتناقلها الألسن، ولا يعود مهماً ما الذي كان البحار يريده من رسالته، ولا حتى إن كان مازال على العهد الذي قطعه، إذ تتحول الرسالة إلى الحقيقة الوحيدة ويتحول البحار إلى ضحية هذه الحقيقة.

هذا كله لا يجعل مضمون الرسالة معروفاً... ففي وسعي أن ألوم سمير في الرسالة على أمر ما، وفي وسعي أن أكتب له عن أمور لم يكن يحب سماعها أو معرفتها... وهذا ما يجعل كتابة مثل هذه الرسالة تلح علي... ذلك أنها تصبح سري الذي لا يستطيع أحد أن يكتشفه، والرجل حين يحتفظ بأسراره يأمن من الحوادث المدبرة، أو هكذا يظن... إذ يشعر أنه مازال مديناً للعالم الذي يحيط به ببعض الإيضاحات.

* كاتب لبناني

back to top