عن التكون التاريخي للهوية التركية 2- 2
نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية في جر المؤسسة العسكرية إلى إعادة إنعاش ولو مؤقتة لهوية تركيا الشرق أوسطية، وهو نجاح تاريخي كبير يصل إلى تغيير جزئي لبذرة ومضمون الدولة التركية، ولكن ذلك لا يعني «تحالفا» طويل المدى بين الطرفين. تعتبر الهوية الوطنية هي بذرة الدولة الوطنية ومضمونها، فهي أبرز قسمات وملامح هذه الدولة في مقابل سواها من الدول سواء في إقليمها الجغرافي أو خارجه. وعند تطبيق هذه المقولة الانطلاقية على الحالة التركية نجد أن المؤسسة العسكرية التركية كانت القوة الرئيسة التي احتفظت تاريخياً بحق تعريف الهوية الوطنية. ومنذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 أصبحت المؤسسة العسكرية قيماً ووصياً على الأهداف العليا للدولة، وحكماً بين الأحزاب المختلفة مع بعضها بعضا، وقابضة على خيوط اللعبة السياسية من وراء ستار، ووصياً وحيدا على هوية تركيا التي توجهت نحو الغرب بشدة. فالمؤسسة العسكرية تخرج إلى العلن عندما ترى أن تدخلها المباشر قد صار واجباً، مثلما كانت الحال إبان حكومة عدنان مندريس في العام 1960، وحال حكومات سليمان ديميريل في الأعوام 1971 و1980، وهكذا كانت حال حكومة أربكان في العام 1997، تلك الحكومات التي تمت الإطاحة بها جميعاً عند تعديها الخطوط الحمراء التي تم تحديدها من المؤسسة العسكرية. كان الالتحاق بأوربا حلماً راود الساسة الأتراك المرتبطين بالمؤسسة العسكرية منذ تأسيس الجمهورية حتى اليوم، ولكن الأفكار الإسلامية التركية الخاصة برسم سياسة إقليمية مغايرة نسبياً لم تستطع أن تكبح هذا التوجه أو حتى أن تفلح في تعديله. وأربكان نفسه صاحب مبادئ الانتماء إلى العالم الإسلامي وأفكار «الأمم المتحدة الإسلامية» و«منظمة التعاون الدفاعي المشترك للدول الإسلامية» و«السوق الإسلامية المشتركة» و«عملة النقد الإسلامية المشتركة»، لم يستطع بسبب تركيبة الدولة التركية وموازين القوى فيها، أن ينفذ اقتراحاته أو حتى بعضاً منها، ناهيك عن رسم سياسة إقليمية جديدة لتركيا دون سقفها الدولي الأميركي. لم يكن «نجم الدين بك»، الأكثر راديكالية من حزب العدالة والتنمية، بعيداً عن «المصالح التركية العليا»؛ التي عرف أربكان تشابكاتها وألوان طيفها وخطوطها الحمراء والخضراء. كان أربكان مؤيداً للتدخل التركي في شمال جزيرة قبرص وغاضاً بصره عن التدخل في شمال العراق، وعاجزاً عن أي تغيير أو تعديل في تحالف المؤسسة العسكرية التركية مع إسرائيل. كما أن أربكان وبعد استلامه السلطة بأسابيع قليلة قد وقع بيده على قرارات تسريح الضباط الأتراك من ذوي التوجه الإسلامي (أكثر من مئة ضابط) بإيعاز من مجلس الأمن القومي التركي. ولم يعن التوجه العارم نحو الغرب أن تتجاهل تركيا مصالحها في المنطقة، ولا أن تكون لها تحالفاتها مع دول فيها، ولكن الشرق الأوسط لم يكن مركز الدائرة التي تدور عليها السياسات الإقليمية التركية. ولكن بعد تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب خشية أوروبا من «هوية تركيا الإسلامية»، والتغييرات الاستراتيجية عميقة الأثر في تركيا بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وفي المنطقة منذ حرب احتلال العراق عام 2003، أصبح الانخراط التركي في الإقليم ضرورة مصيرية للحفاظ على مصالح الدولة التركية. وإذ لا تُستثنى حكومة حزب العدالة والتنمية من انخراطها في مصالح الدولة التركية، مثلها مثل أربكان، إلا أنها ذهبت أبعد من أربكان في براغماتيتها وتحالفاتها الدولية. راح أردوغان يكسر إشارات السير الأربكانية ويتعداها بخطوات واسعة، فبرع في إرسال إشاراته قبل الانتخابات وبعدها ليس فقط إلى المؤسسة العسكرية في الداخل، ولكن أيضاً إلى الأطراف الدولية في الخارج. فالولايات المتحدة يملك معها أردوغان وعبدالله غول علاقات قوية، ويعود الترحيب الأميركي بأردوغان وحزبه أساساً إلى دور «الوسيط الحضاري» بين الشرق الإسلامي والغرب، وهو الدور المنوط بحزب العدالة والتنمية، الذي لم يطرح ناهيك عن قدرته على ذلك تعريفاً جديداً أو تغييرا جوهريا في اتجاهات المصالح الوطنية التركية، إذ تقع هذه الأخيرة -حسب قواعد اللعب التركية- في دائرة اختصاص المؤسسة العسكرية. وهكذا يمكن استنتاج أن توجيه السياسة الخارجية لتركيا نحو الشرق الأوسط، وما يترافق معها حالياً من إعادة تذكير واسعة المدى للمجتمع التركي بالروابط التي تربطه بالمنطقة، لم يكن ليتم من دون الضوء الأخضر للمؤسسة العسكرية الحاكمة. نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية في جر المؤسسة العسكرية إلى إعادة إنعاش ولو مؤقتة لهوية تركيا الشرق أوسطية، وهو نجاح تاريخي كبير يصل إلى تغيير جزئي لبذرة ومضمون الدولة التركية، ولكن ذلك لا يعني «تحالفا» طويل المدى بين الطرفين. ومرد ذلك أن المؤسسة العسكرية التركية تنظر إلى الاتفاق مع أردوغان وحزبه على «أحد جوانب الهوية الوطنية»، أي الروابط مع الشرق الأوسط، على أنه مجرد ضرورة للسياسة الإقليمية التركية، ودون أن يعني ذلك توقف المؤسسة العسكرية عن الضغط على أردوغان بوصفه خصما سياسيا؛ فالمحكمة الدستورية التركية تنظر الآن في حظر حزب العدالة والتنمية ومنعه من العمل السياسي وشطبه من قائمة الأحزاب التركية الشرعية!. * كاتب وباحث مصري