اغتراب

نشر في 12-04-2009
آخر تحديث 12-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان حتى أوائل السبعينيات لم يكن هناك أثر للحجاب والنقاب وجلابيب الرجال القصيرة البيضاء في الشارع المصري، ولم يكن هناك كل هذا الزبيب الذي تناثر على جباه الرجال، كانت ملابس النساء والفتيات قصيرة للغاية وبعضها لا يغطي الأكتاف والأذرع، ولم تكن الزوايا الأهلية «المساجد الصغيرة» قد ظهرت وانتشرت أسفل المنازل حتى جاوز عددها قبل سنوات مئة ألف زاوية، ورغم ذلك كان المجتمع في ذلك الوقت آمناً ومتماسكاً والشارع منضبطاً، فلا تحرش جنسيا فرديا أو جماعيا ولا فتن طائفية تنفجر بين لحظة وأخرى هنا أو هناك، ولا جرائم نهب أو نصب أو اغتصاب، ولا لصوص يقتلعون أبواب المنازل وقضبان السكك الحديدية، أو يخطفون باللحى والمسابح عقول البسطاء لكي يُرسخوا التعصب والانقسام والتهرؤ الذي نراه الآن، وكان بوسعي أن أتجول ليلاً في شوارع القاهرة وأطرافها، وأن أزهو بذلك الأمن والتماسك على شوارع المدن الغربية.

«هذه الشوارع التي تفر من رجليّ كالإوز

أجمل منها شارع التحرير والباشا

وحارة المُعز

على الأقل أستطيع قرب الفجر

أن أسير آمناً

ومغمض العينين

لا الرصيف يستطيع أن يفر من وجهي

ولا ملامح الوجوه

عَمَى الغريب لم يزل سدّاً

عَمَى الغريب رغم المعطف الجديد

والخرائط التي أحملها وندرة الكلاب

لم أزل أسير في الشوارع التي بداخلي

ولم أزل أتوه».

في كل العصور كانت مصر متدينة ومتسامحة تفتح بابها وقلبها للغريب والمهاجر المحب بغض النظر عن جنسه ودينه، وتسمح له أيضاً بتولي أرفع المناصب، وأذكّر هنا بالمماليك العبيد الذين حكموا مصر قرابة ثلاثة قرون، وحاربوا التتار والصليبيين، وتركوا لنا أجمل آثار العمارة الإسلامية، وبمحمد علي باشا الذي اختاره شيوخ الأزهر لحكم البلاد قبل قرنين، وبنوبار باشا المسيحي الأرمني وأول رئيس وزراء لمصر في العصر الحديث والذي رفض بعد ترك منصبه تولي حكم إمارة أوروبية لأنه «كما ورد في مذكراته، لا يريد الابتعاد عن بلاده». الدين الإسلامي كان وراء هذا التسامح الجميل وسبباً له، وقد عشت في طفولتي وصباي في واحدة من أكبر قرى المنوفية بين المسلمين والأقباط المتحابين والمتعاونين، وكان الفرق الوحيد بينهم هو نفسه ما ذكره اللورد كرومر في مذكراته وأوراقه قبل قرن «أحدهما يصلي في مسجد والآخر في كنيسة»، لكن ملامح التدين تختلف من عصر إلى آخر، ففي عصور الانحطاط تسود الخرافات والغيبيات والدروشة، ويبرز التعصب والتشدد وكره الآخر.

وفي عصور الصعود والبناء يتألق الوجه النقي والحقيقي للدين الذي يحارب التخلف والخرافات والأساطير، ويرسخ التسامح وطلب العلم وامتلاك أسباب التقدم، رأينا ذلك الوجه في عصر محمد علي، وفي زمن عبدالناصر اللذين انشغلا بالبناء والتأسيس والدولة العصرية، وأذكر هنا بالشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الذي اتخذ قراراً قبل نصف قرن بتشكيل لجنة علمية تراجع المناهج الدراسية في الأزهر ومعاهده وتنقيها من الخرافات والغيبيات، وكل ما يفتح أبواب التخلف والدروشة.

ويبدو أن هذه اللجنة لم تقم بدورها كمعظم اللجان التى نشكلها، فبعد رحيل الإمام الأكبر ورحيل عبدالناصر توارى الوجه النقي والحقيقي للدين، وبرز الوجه الآخر الشكلي والمروج للتشدد والتعصب والكره ومناهضة العلم والتقدم، فرأينا كل من هب ودب يحتل شاشات التلفزيون والصحف ومنابر المساجد لكي يكفر الآخرين، ويؤجج الفتن ويفسر القرآن الكريم باعتباره كتاباً في الطب والعلوم، ومن يبارك كسلنا وتخلفنا ويزعم أن الله سخر لنا الآخرين الذين يكدون ويخترعون لكي نستفيد، ومن يفتي بإرضاع الكبير والتبرك ببول الرسول، واحتلت جيوش الشيوخ شاشات الفضائيات، فأفتى العارف والجاهل والخبيث، وشحنوا الناس بكره أنفسهم وبلادهم فانتشرت الفوضى وتعاظم التشظي، ولم يعد الدين واحداً يلم ويجمع ويطهر ويشفي. في مناخ كهذا تغترب البلاد عن ذاتها وتراثها وتاريخها وتندلع الحرائق، ويغترب الإنسان عن ذاته ووطنه، ويسعى الثري والقادر لاكتساب جنسية أوروبية أو أميركية يحتمي بها، ولا يبقى للقابضين على الجمر سوى الكوابيس والهواجس.

«أخشى أن يقف النيلُ بعيداً في الصحراء

لكي يَتبخرْ

أخشى أن يتجه جنوباً

أو شرقاً أو غرباً

أو يعدو خلف امرأة تتلون في الغابات ِ

وتزهو بأنوثتها

النيلُ ذكرْ

والنيل يحب الرقص ويهوى الأحمرَ

والورديّ ومصر عجوزٌ

تتوضأ بالأمواج فقط... وتصلّي

وتثرثر في الساحات ِعن العفريت ِ

وعن جنيّ يحرس باب القصرِ

وعن أشباح حول الدور تدورُ

وعن أهوال القبرْ».

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top