مفكر تركيا الاستراتيجي: احمد داود أوغلو
* شاركت بسرور في فعاليات مؤتمر «تركيا تتحرك» أو Turkey in Motion الذي نظمته جامعة «برنستون» الأميركية قبل أسبوعين، إلى جوار نخبة من خبراء الشؤون التركية من أميركا ومختلف دول العالم. تميز المؤتمر بأهمية خاصة واستثنائية بسبب أنه عقد في جامعة برنستون الشهيرة، وهي إحدى أفضل الجامعات في العالم من حيث البحث العلمي، وفي الوقت نفسه أحد المنابر الممتازة لمخاطبة النخبة السياسية والأكاديمية الأميركية. وزاد المؤتمر أهمية على أهميته بمشاركة البروفيسور أحمد داود أوغلو، مستشار رئيس الوزراء التركي للشؤون الخارجية، والذي ألقى كلمة الافتتاح المليئة بالعبر والدروس بل وحتى الفنون!وشت كلمة أوغلو بمعرفته النوعية بأساليب مخاطبة الرأي العام الأميركي، التي لا تقتصر على كاميرات التلفزيون ووسائل الإعلام، بل تتعدى ذلك إلى مخاطبة النخبة الأكاديمية والسياسية الأميركية. وإذ تميزت الأوراق المقدمة للمؤتمر بمستوى عال من المعرفة والرتابة الأكاديمية في آنٍ معاً، فإن كلمة أحمد داود أوغلو كانت لافتة في حبكتها وصياغتها وعاكسة للكثير من الذكاء. قدم داود أوغلو خطاباً سياسياً راقياً شرح فيه أهمية تركيا استراتيجياً لواشنطن؛ بحيث ربط بين مصالح تركيا الوطنية وتحقيق المصالح الأميركية في قوس جغرافي كبير ممتد من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وحتى شرق المتوسط. وتميز خطاب أوغلو بأقل قدر من الخطابة الشرقية المعروفة مع أقصى قدر من الحنكة السياسية، لأنه أسند دائماً سياسات تركيا الخارجية إلى تناغمها مع المصالح الأميركية. بمعنى آخر حاول داود أوغلو أن يقول إن تحقيق تركيا لمصالحها في جوارها الجغرافي يعني تحقيق الولايات المتحدة الأميركية لمصالحها هناك أيضاً، حتى أنه دافع عن سياسة بلاده حيال الصراع الأذربيجاني-الأرميني وانحيازها لمصلحة أذربيجان، مع ملاحظة وجود لوبي أرميني قوي في الولايات المتحدة الأميركية قوامه مليون ونصف أميركي من أصل أرميني، بطريقة فريدة بالقول: «لو ضاعت أذربيجان سيخسر التحالف الأطلسي التوازن في كامل القوقاز وآسيا الوسطى لمصلحة موسكو وتحالفاتها هناك». ولم يكتف أوغلو بذلك، بل إنه اعتبر أرمينيا فقيرة الموارد وحبيسة جغرافيا ولها أسوأ وضع جيوبوليتيكي في القوقاز مقابل أذربيجان المهمة جغرافيا والغنية بموارد الطاقة.يعود أحمد داود أوغلو ليظهر مهاراته الاستراتيجية والخطابية حين يقول أن «السلام مهم لتركيا لأنه يسمح لها بتظهير نجاحاتها الاقتصادية وتوسيعها»، ولذلك فإن تركيا تتوسط في عمليات سلام مختلفة في المنطقة. وإذ يشدد داود أوغلو على وزن تركيا الإقليمي والدولي، فإنه يبرز أهمية حيازتها لمشروع يتم تسويقه، ولذلك فتركيا- حسب أوغلو- لا مصلحة لها في التوتر والأزمات لكي تتوسط وتحصل على دور كما يعتقد البعض. يعد أحمد داود أوغلو المولود في مدينة قونية التركية عام 1959 الطبعة الأحدث لإستراتيجيي الشرق الكبار، ربما تستطيع حتى أن تذهب أبعد من ذلك لتنعته بأنه «أهم مفكر استراتيجي تركي في نصف قرن الماضي». أصبحت أعمال داود أوغلو الفكرية بمنزلة القوام الأساسي لحركة السياسة الخارجية التركية، أما أهم هذه الأعمال وسبب شهرته خارج تركيا فهو كتاب «العمق الاستراتيجي» الذي ألفه عام 2001 وطبعت منه 27 طبعة حتى الآن.يريد أوغلو أن يجعل تركيا على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليمية وأن يفكك عزلتها والعداوة التاريخية بينها وبين جيرانها، وصولاً إلى المشاركة في السياسة الإقليمية من موقع الفاعل. ويعني اختيار عنوان الكتاب موقفاً مبدئياً سلبياً من مقولة «تركيا جسر الحضارات» الرائجة في المنطقة، لأنه يريد لتركيا أن تكون صانعة سياسات وليست جسراً أو ممراً مثلما كانت ربما في السابق. يتلو هذا الكتاب في الأهمية مؤلفه الموسوعي الصادر عام 2005 بعنوان: «عثمانلي مدنيتي: سياسة، اقتصاد، فن كلاسيك»، ونص العنوان لا يحتاج إلى ترجمة! يصافحك داود أوغلو بكثير من الحرارة قبل أن يحييك بلغة عربية مع لكنة مصرية: «مساء الخير»، ويروي أوغلو لك في حديث العشاء أن هناك ثنائيتين تحكمتا في تجربته الشخصية. الثنائية الأولى ظهرت مع انتقاله من بروفيسور جامعي في العلوم السياسية إلى مستشار رئيس الوزراء، وهي ثنائية النظرية-التطبيق، والثنائية الثانية فرضت نفسها بعد استلامه لمهامه، وهي المثالية-الواقع في إدارة العلاقات الدولية. لا تملك سوى الإعجاب بقدرات أوغلو العالية في التفكير الاستراتيجي كما في إيصال الرسائل السياسية ومخاطبة النخبة الأميركية، وبالرغم من قدرات أحمد داود أوغلو العالية والظروف الإقليمية المواتية لتركيا حتى تنخرط في توازنات الإقليم، فإن أوراق تركيا الأساسية مازالت خارج المنطقة، وبالتحديد في أميركا خصوصاً ونصف الكرة الغربي عموماً. تحتفظ إيران، التي ألمح أوغلو إلى أن نموذجها السياسي يفتقر الجاذبية التي تجعله قابلاً للتسويق في المنطقة والعالم، بأوراقها السياسية داخل المنطقة وليس خارجها مثلما هو حال تركيا. وتؤدي هذه النتيجة إلى صعوبة قيام تركيا بدور إقليمي كبير مقارنة بإيران التي لا تملك اقتصاداً شبيهاً بالاقتصاد التركي ولا علاقات دولية مناظرة ولا حتى قدرات عسكرية مقاربة، ولكنها تمتلك تحالفات إقليمية راسخة عملت على تثبيتها في المنطقة منذ ثلاثة عقود على الأقل. كما أن قدرات تركيا الاقتصادية والعسكرية وتحالفاتها الدولية لا تؤهلها مع ذلك للعب دور إقليمي في كل جهات جوارها الجغرافي العبقري سواء في البلقان أو القوقاز أو الشرق الأوسط أو البحر الأسود وحتى شرق المتوسط، إذ لا يستطيع لعب هكذا دور سوى القوى العظمى، وهي بديهة من بديهيات العلاقات الدولية.تضبط نفسك مستذكراً كلمة داود أوغلو ومهاراته العالية يعد انتهاء المؤتمر، وعارفاً أن زيارة أوباما التاريخية لتركيا- برغم كل مزايا اسطنبول الاستراتيجية- لم تكن لتتم لولا جهود أحمد داود أوغلو!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة