الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمايكل كوك جوهر الدين في ميزان الاستشراق

نشر في 10-02-2009 | 00:00
آخر تحديث 10-02-2009 | 00:00
No Image Caption

صدر حديثاً عن «الشبكة العربية للأبحاث والنشر» كتاب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للمؤلف مايكل كوك (مستشرق أميركي). ترجم النص وراجعه وقدم له كل من د. رضوان السيد ود. عبد الرحمن السالمي ود. عمار الجلاصي. ومن العنوان نعرف أن المستشرق الغربي يغوص في كل شيء في المشرق، يبحث عن أي شيء وينسج منه كتاباً ليصبح مسار اهتمام القراء العرب أو غيرهم.

تأثر كوك بكلام الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، في فصل «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، إذ قال في مطلعه إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الإسلام، وجوهر الدين. وقد التزم كوك في عمله بطرق استشراق القرنين التاسع عشر والعشرين الفيلولوجية، فاستوعب كل ما يتعلّق بهذين المفردين في التراث الإسلامي الكلاسيكي من خلال القراءة والتنظيم الدقيق، وقبل أن يسهّل الكومبيوتر والإنترنت الأعمال الاستقصائية. بيد أن إشكالية هذا الكتاب شديدة الحداثة إذا صح التعبير، إنها المواطنة المعاصرة، والتي تقول بحق الجميع في المشاركة والمحاسبة والمراقبة لمسائل الشأن العام، والإسهام في تحقيق الخير العام، والتدخل لأجل التصحيح والتغيير. يرى الكاتب أن هذه الإشكالية توافرت وبعمق ديني وأخلاقي في التجربة الإسلامية الكلاسيكية بسبب إصرار المسلمين عليها، وما زالت تأثيراتها واضحة في الإسلام الحديث والمعاصر، ولدى سائر الفرق والمذاهب.

قصّتان

بدأ المؤلف كتابه بقصتين، إحداهما في «التوطئة» والأخرى في «المدخل». في «التوطئة» ذكر قصة المرأة التي اغتُصبت في محطة قطار في شيكاغو عام 1988، وكيف أن عشرات المشاهدين لم يتدخلّوا لإنقاذها أو ردع الجاني، موضحاً ما يعنيه ذلك التصرّف في سياق المسؤولية الأخلاقية والقانونية والدينية العامة.

ومن دون أن يصارح القرّاء بالمقارنة أو التعليل، انتقل في «المدخل» الى قصة «صائغ مرو» الذي تصدى لأبي مسلم الخراساني، بطل الثورة العباسية، لردعه عن الظلم ففقد حياته استناداً لاعتقاده بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم انصرف كوك لتتبع هذا المبدأ في النص القرآني، ثم في نصوص المفسرين الأوائل. وعلى غير عادته، فإنه لم يُطل في هذا القسم، في تبيان أن المفسرين لم يكن لهم تأثير كبير في مجرى التجربة الإسلامية في ما يتعلق بهذا المبدأ على الأقل. وأطال أكثر في استعراض الأحاديث النبوية التي تذكر المبدأ وضوابطه، وأهمها حديثاً: التصدي للجائر لمنعه من الجور، والمنازل الثلاث. ثم انصرف الى سلوكيات المحتسبين المتميزين الأوائل الذين طبّقوا فردياً المبدأ، وإلى ما عانوه أو ما ترتب على ذلك من نتائج.

أقبل كوك بعد التمهيدات لاستكشاف «قلب العمل»، أي تجليات المبدأ في التجربة الكلامية والفقهية الإسلامية. وأعطى الإمام أحمد بن حنبل وحركته الدينية - الاجتماعية والسياسية اهتماماً خاصاً، ثم تحدّث عن الحنابلة في بغداد ودمشق، مسلطاً الضوء على خصوصية ابن تيمية، ثم الوهابية، والدول السعودية الثلاث حتى السبعينات من القرن العشرين. واهتم ثانياً بالمعتزلة، ومعنى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أصولهم الخمسة. وتفرّغ بتبسّط أكبر لفرقتي «الزيدية» (ذات الاهتمام الخاص بالمبدأ) و»الإمامية»، ملاحظاً أن الإمامية الإثني عشرية اهتموا بهذا المبدأ حديثاً أكثر مما اهتموا به قديماً. ولا ندري لماذا قدّم دراسة آراء الحنفية والشافعية خلال المرحلة الكلاسيكية على الإباضية. فالمعروف أن الإباضية، كما الزيدية، ذو تأثير كبير في التطورات التاريخية الأولى لهذا المبدأ قبل قيام المذاهب. ثم أنهى الكاتب قراءة المرحلة الكلاسيكية بفقرة عن الإمام الغزالي لأهمية الفصل الذي عقده الأخير للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه الرئيس: «إحياء علوم الدين»، ولتأثيراته على الفرق والمذاهب الإسلامية كلها قديماً وحديثاً. وبعد تأملات متعجّلة لقضايا لم يعالجها سابقاً مثل الأبعاد السياسية للنهي عن المنكر، ألقى الكاتب نظرة موجزة على التطورات في العصر الحديث لدى السنة والشيعة. وبحث بشيء من الخَفَر والتردد إمكان تأثير مبدأ النهي عن المنكر في ظهور الأصوليات الإسلامية المعاصرة: فهل يشكل سلوك الإسلاميين المتشدّدين في العصر الحاضر، عودة للربط بين «الجهاد» ومبدأ الأمر بالمعروف؟! ثم عقد مقارنات بين الجاهلية والإسلام في ما يتصل بالمسؤولية الاجتماعية ودوافعها، ثم بين المسيحية من جهة، والإسلام من جهة ثانية، معتبراً، وعلى خلاف المتعارف عليه في الغرب، أن التجربة الإسلامية في المسؤولية الاجتماعية ذات الجذور الدينية والأخلاقية أبرز وأعمق معنى من تلك المسيحية.

في تقديمه للكتاب يقول رضوان السيد: «كنت في كتابي «سياسات الإسلام المعاصر» قد ناقشت مفهوم الـ Berufung أي الإحساس الرسالي أو الدعوي الذي لاحظه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في أخلاق العمل (باعتباره نوعاً من أنواع العبادة) لدى الكالفينيين من البروتستانت خصوصاً في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، ورأيت أن أفضل مفردة لترجمته الى العربية هي «الاحتساب» (وهو في الإسلام شعور غلاب بضرورة أداء الواجب دونما انتظار لفائدة مباشرة، بل لوجه الله ورجاء أجره وثوابه واحتسابه عنده)؛ لكن في ما يبدو فإن الأستاذ كوك لا يرى لهذا المبدأ أثراً ظاهراً في البروتستانتية المعاصرة. وقد أزعج ذلك الأستاذ جون كلسي (الباحث المعروف في أخلاقيات الدين، ومحرر «الحرب العادلة بين المسيحية والإسلام») فتتبع وجوه الإحساس بالمسؤولية بدوافع دينية وأخلاقية لدى اليهود والمسيحيين المُحدثين، معتبراً كوك متجنياً رغم عظمة كتابه. وما انتهى تعجب كوك وإعجابه عند هذا الحد، بل عقد ملحقاً آخر أوضح فيه أن المؤرخ المسيحي المعروف ابن العبري اقتبس نصه في «المسؤولية» (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من الإمام الغزالي! أي كأن المسألة برُمّتها ما كانت معروفة لدى المفكرين المسيحيين في الأزمنة الكلاسيكية!».

يذكر السيد ثلاثة أنواع من الآيات التي ذكر فيها «المعروف» و»المنكر» مقترنين أو غير مقترنين.

- النوع الأول: يحصل فيه الاقتران، وهو الأكثر وروداً في القرآن الكريم بصيغة الخبر مثل «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (التوبة:67)، وبصيغة الوصف أي وصف المؤمنين المثاليين: مثل «كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» (آل عمران: 110)...

- النوع الثاني: كثير الورود في القرآن، ويُفرد فيه «المعروف» وحده بالذكر، وهو يعني بوضوح: الإجادة في المعاملة أو السلوك، والإحسان في العطاء. وذلك على مثل قوله تعالى: «فأمسكوهن بالمعروف أو سرحوهن بمعروف» (البقرة: 231)...

- النوع الثالث: من أنواع ذكر مصطلحي «المعروف والمنكر» أو أحدهما، هو المختص بذكر «المنكر» بمفرده، من مثل «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه» (المائدة: 79). والواضح من الآيات التي ينفرد فيها «المنكر» بالذكر، أن معناه الشر، بشتى أنواعه وصيغه من مثل الكفر بالله، وارتكاب الفواحش العلنية، وقطع الطريق، والاعتداء على الناس... الخ.

والمعروف أن هذا المبحث في تحديد الخير والشر أو الحسن والقبيح، تطوّر لدى المتكلمين بعد القرن الثالث الهجري. وظهر من قال بالاستحسان العقلي، ومن قال بالاستحسان الشرعي. يبين السيد أن المفسرين الأوائل اختلفوا في تفسير آيات الاقتران بين المعروف والمنكر، فمنهم من اعتبرهما مقارنين للإسلام نفسه، ومنهم من اعتبر أن معناهما الملازم للإسلام هو الجهاد، أي أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن تناول واجبات للمؤمن أو للمؤمنين ذات طابع داخلي، فإنه بالدرجة الأولى يتعلق بواجبات الأمة تجاه الخارج أو مهماتها بالخارج في نشر الدعوة بشتى السبل ومنها الجهاد.

نص كتاب كوك طويل وشاسع، والرجل يرجع الى مئات المصادر المطبوعة والمخطوطة. والكتاب لا يمثل فحسب استقصاء واسعاً وشاملاً للتجربة الإسلامية في رؤية العالم؛ بل هو أيضاً قراءة عميقة ومستوعبة لروح الإسلام كله. وهو في أحد وجوهه يشكّل قراءة عميقة لروح الإسلام كله، من منظور إشكاليات الضمير الديني والأخلاقي، وأبعاد المسؤولية بين الدولة والمواطن في التجربة العالمية المعاصرة.

back to top