الديـن والشرعيـة السياسيــة 2

نشر في 19-05-2008
آخر تحديث 19-05-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي ... ولما بدأ الفساد في الداخل، وإثراء الطبقات الجديدة، والإغراق في الشعارات الوطنية البراقة، واتساع المسافة بين الأقوال والأفعال، بين المبادئ المعلنة والإنجازات الممكنة، وتحول القوات المسلحة إلى الداخل أكثر من الخارج جاءت هزيمة يونيو لإعلان نهاية النظام السياسي الذي تبنته الدولة الوطنية.

وبالرغم من انتصار أكتوبر 1973 فإن ما تلته من تحولات اجتماعية واقتصادية بداية بقانون الاستثمار في 1975، ثم زيارة القدس في نوفمبر 1977 بعد هبة يناير من نفس العام، واتفاقيات كامب ديفيد في 1978 ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979، والتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الصديق الشرقي إلى الحليف الأميركي الذي بيده 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط، وزيادة تبعية الدولة، والقدر الهائل من التغريب والأمركة، بل تشجيع الدولة للجماعات الإسلامية لتصفية الناصريين بعد هبة يناير 1977، بعد هذا كله، استيقظت الخلايا النائمة، وبدأت الجماعات الإسلامية تتحول من الهامش إلى المركز، تعرض نفسها كقوى بديلة قادرة على الإنقاذ الوطني من التبعية والانعزال في الخارج، والقهر والفساد في الداخل، واستطاعت تجنيد الناس ضد النظام القائم، والنجاح في معظم انتخابات الاتحادات والنقابات المهنية والطلابية، وتمارس نشاطها العلني بالرغم من سلاح اللاشرعية المسلط عليها، وكثر الحديث عن: «الصحوة» الإسلامية، «الظاهرة» الإسلامية، «الإسلام السياسي»، «الثورة» الإسلامية لتشير إلى نفس الشيء، الإعلان عن حقبة تاريخية قادمة لا يظهر منها حتى الآن إلا قمة الجبل من دون أسفله الذي مازال مغمورا تحت الماء، لا يظهر منها فوق السطح إلا الينابيع التي تخرج منها كثير من المياه الجوفية التي لا يراها أحد.

وكانت الأرض خصبة لانتشار الجماعات الإسلامية ولإعطاء نفسها شرعية من الأمر الواقع، فهي من الناس ومع الناس وللناس، ألحقت بالمساجد دورا للمناسبات للأحزان والأفراح، والعيادات الطبية بدلا من مغالاة الأطباء، وفصول التقوية بدلا من الدروس الخصوصية التي أرهقت ميزانية الأسرة، بل إيجاد أعمال للعاطلين، وساحات رياضية للشباب، وجمعيات خيرية للفقراء، وتزويج غير القادرين. شعر الناس بها أكثر مما شعروا بالدولة وأجهزتها، فأخذت شرعية من أسفل باسم الخدمات أقوى من الشرعية التي تمنح لها من أعلى باسم القانون، وهو سلاح في يد الدولة تستعمله ضد خصومها السياسيين.

كانت الجماعات أول من أهرع لمساعدة منكوبي الزلزال الذي ضرب القاهرة في أوائل التسعينيات قبل أجهزة الأمن، فلما جاءت الأجهزة الرسمية احتكرت أعمال الإغاثة وسلبتها من أيدي الجماعات، وحدث نفس الشيء مع الجماعات اليسارية التي نظمت قوافل الإغاثة لشعب فلسطين ثم استولت عليها الدولة حتى لا تستعمل بؤرة لحركات شعبية أوسع تتحول إلى حركات سياسية غير مأمونة العواقب.

لم يستطع الحزب الحاكم ملء الفراغ السياسي لأنه نشأ في حضن الدولة والنظام كإحدى الوزارات، أعضاؤه موظفون متفرغون ومعينون من الرئيس كالوزراء والمحافظين ومديري الأمن ورؤساء الجامعات، وتدخل جهاز الدولة، واللعب بقوائم الناخبين. لا يمثلون مصالح الشعب بل مصالحهم الشخصية، فهم نواب القروض، المتهربون من الخدمة العسكرية، ولم تستطع أيضا أحزاب المعارضة الماركسية والناصرية والليبرالية ملء الفراغ لأنها أيضا، ولو بدرجة أقل، تعتمد على زعامات تاريخية، وتضعفها الصراعات الداخلية، وتنحصر نشاطاتها داخل مقار الأحزاب أو في إصدار الجريدة الأسبوعية أو اليومية المثقلة بالديون، التي تقوم الدولة بطباعتها، ولا يُسمح لها بأي تحرك شعبي إلا بتصريح من أجهزة الأمن.

لذلك نشطت الجماعات الإسلامية نابعة من قاع الشعب، واستطاعت أن تكون المعبّر شبه الوحيد عن مطالب الجماهير، واكتسبت شرعية الأمر الواقع De Facto، وليست شرعية القانون De Jure. وبقدرتها التنظيمية بطريقة الخلايا العنقودية أصبحت قادرة على حشد الجماهير، وتنظيم المظاهرات العامة للاحتجاج على ما يحدث للوطن من مآسٍ ومذابح في فلسطين والعراق وكشمير وقبلها في البوسنة والهرسك وكوسوفو، بل قد يمتد أثرها إلى الشيشان.

وانقسمت الأنظمة العربية قسمين تجاه الجماعات الإسلامية: الأول مازال يعتبرها منافسا خطيرا لها في الحكم، ومازال يسلط سيف اللاشرعية عليها، فإذا ما ازداد نشاطها، اتهمت بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، وقدم قادتها إلى المحاكم العسكرية التي لا نقض فيها ولا إبرام. هذه هي الحال في مصر وتونس وليبيا والعراق وسورية والسعودية وعمان والإمارات. فإذا ما سمح نظام سياسة لتخفيف الضغط عليه بإجراء انتخابات شعبية يكون فيها الإسلاميون طرفا فيها فينجحون في الانتخابات المحلية، ويحصدون حوالي ثلثي المجالس، ينقلب الجيش عليها باعتباره الوريث الشرعي لحركة التحرر الوطني التي حصل بها الشعب على الاستقلال، فالجيش هو الحامي للشعب، وتغرق البلاد في بحر من الدم، مئة ألف قتيل على مدى عشر سنوات بين الدولة والإسلاميين، صراعا على السلطة، سلطة الجيش ممثلة في الدولة وسلطة الشرعية التي أتى بها الإسلاميون إلى المجالس المحلية، وتقدم سلطة الدولة ذريعة أن الإسلاميين غير ديمقراطيين، وأنهم أعلنوا أن هذه الانتخابات التي نجحوا فيها هي آخر الانتخابات، فلا تداول للسلطة، ولا تنازل عن الحكم، وتقع البلاد في حرب أهلية طاحنة.

وكان الوطن قد كسب أكثر وخسر أقل إن لم ينقلب الجيش على الدولة، وألغى نتائج الانتخابات، وترك الإسلاميين في الحكم يواجهون مشاكل الفقر والبطالة والفساد والديون الخارجية، فإذا عرف الناس أنهم لم يحصلوا على شيء بالشعارات ولم تحل قضاياهم بالعواطف الإيمانية لم ينتخبوا «جبهة الإنقاذ» من جديد. وتكون البلاد قد مرت بتجربة ديمقراطية فعلية تقوم على تداول السلطة بدلا من الاقتتال بين الإخوة الأعداء، وشق الصف الوطني، وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة.

وقد يقوم الإسلاميون بانقلاب ضد الجيش كما هي الحال في مذبحة حماة في سورية أو معه كما هي الحال في الانقلاب الأخير في السودان الذي ضم الجيش وقريشا في آن واحد، ولما استحال وجود نظام سياسي برأسين أقال الجيش قريشا، وحكم بمفرده، وتستمر لعبة شد الحبل بين الفريقين، فتتوقف الحياة السياسية لتعطيل الرئتين معا.

* كاتب ومفكر مصري

back to top